بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 أبريل 2010

تعليق نقدي على كتاب "فلسفة علم الاقتصاد"

تعليق على كتاب أ.د. جلال أمين
فلسفة علم الاقتصاد - بحث في تحيزات الاقتصاديين
وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد
كتبه: عبد الغني عبده عبد الغني:-
أولا: سوف أبدأ من العنوان الرئيسي:-
فلسفة علم الاقتصاد... الذي يبين أننا أمام "كتاب في الفلسفة" وليس بحثاً علميا.... ومن ثم يكون السؤال: هل من حقنا تفنيد الكتاب وفقاً لالتزامه بمنهجية علمية؟ ... أرى أن ذلك لا يجوز... كل ما نستطيع عمله هو القيام بأمرين... أولهما: الرجوع إلى قواعد الكتابة في فلسفة العلم لنتوسل بها في الحكم على مدى الالتزام بهذه القواعد... وثانيهما: استنطاق الفصول المفتاحية في الكتاب لتخبرنا بمقاصده وأهدافه ومنهجيته ومقولاته الأساسية ومقدماته لنتوسل بها كذلك في الحكم على منجزاته.
فماذا تقول لنا قواعد الكتابة في فلسفة العلم؟....
1) الفلسفة:- موقف إنساني من العالم ومن العصر والمجتمع يستوعب كل جوانب الإنسان... وكل مشكلة تصلح أن تكون مادة للفلسفة بشرط أن تدرس في كليتها... أو بصورة مجملة.
2) تكاد فلسفة العلم أن تكون مرادفا للتحليل المنطقي لقضايا العلم أو لغته عند الكثير من الباحثين والقراء على السواء.
فمصطلح فلسفة العلم في تقدير د. صلاح قنصوة ... تفلسف حول العلم... وبقدر تعدد وجهات النظر الفلسفية العامة يمكن تعدد فلسفات العلم.
3) ليس هناك قائمة أو لائحة بالموضوعات التي ينبغي أن تُدرج تحت عنوان "فلسفة العلم" بحيث يكون الخروج عليها انحرافاً عن الموضوع أو جهلاً به... فللمشتغل بفلسفة العلم أن يتناول: ميتافيزيقا العلم وأسسه المعرفية وإبراز جوانبه القيمية أو تحليل لغته... هذا التناول أو ذاك منطلقاً من منحى فلسفي معين يضع فيلسوف العلم داخل مذهب بعينه.... ومن ثم لابد أن تتعدد فلسفات العلم بقدر تعدد المذاهب الفلسفية لأنها ليست سوى وجهة نظر فلسفية إلى العلم.... وفلسفة العلم لا تقدم معارف علمية بل تتفلسف حول تلك المعارف وحول المناهج التي توصلت إليها... فعندما يعمد رجال العلم إلى الكتابة عن نتائج بحوثهم وبيان أهميتها ومكانتها في تاريخ العلم، وأثرها المتوقع في حياة الإنسان، وغير ذلك من موضوعات تتجاوز التقرير المباشر لنتائج البحث العلمي وخطواته، فإنهم يدلفون إلى تخصص آخر هو فلسفة العلم.... والعلماء بصنيعهم هذا يتنازلون عن حصانتهم العلمية، ويقفون على قدم المساواة مع سائر فلاسفة العلم، بحيث يمكن أن نقبل كلامهم أو نعزف عنه دون أن يتوجب علينا أن نتخذ من آرائهم بينة فلسفية تكافئ في صحتها معادلاتهم وصيغهم العلمية.
4) شرطان للاشتغال بفلسفة العلم هما:-
• الوعي بالتزام منظور فلسفي يختاره المشتغل بفلسفة العلم ويؤثره على غيره، ويتسق في بحثه مع مذهبه أو وجهة نظره...(ما يعني أن لا مكان للحيدة إزاء ما يطرح من قضايا ومواقف وإنما هناك تحيز مذهبي!!!).
• إدراك المشتغل بفلسفة العلم أن العلمَ هو موضوع بحثه الفلسفي ومادته الخام التي يصوغها ويشكلها فلسفياً... ومن ثم ينبغي عليه الإلمام بما يتحدث عنه (وهو العلم) ومتابعة ما يدور فيه من تطور.... ومعرفة أحدث نظرياته ومفهوماته... فليس من المشروع – لدى فلاسفة العلم – اجتزاء فترة زمنية من تاريخه نستخلص منها حكماً مطلقاً على العلم بأسره.... فافتقاد الفهم للطابع التاريخي للعلم يحوله إلى نبت شيطاني أو كائن علوي هوى إلينا من السماء مكتمل الأعضاء والتكوين، لا نعرف له ماضياً ولا نتنبأ له بمستقبل...
ثانياً: العنوان الفرعي:-
بحث في تحيزات الاقتصاديين... وبعض تحيزات الاقتصاديين بحكم أشياء كثيرة يمكن فهمها وتبريرها وقبولها حتى من قبل العلم "علم الاقتصاد".... ولا تحتاج إلى بحث لأنها ليست معيبة ولا متهمة بل هي بديهية... فالاقتصادي وغير الاقتصادي الذي يؤمن بالمذهب الرأسمالي أو المذهب الاشتراكي متحيز في هذا الإيمان ولا يمكن لأحد أن يتهمه أو يبحث في "إيمانه" فهذا التحيز مسألة شخصية... المشكلة سوف تنشأ عندما يصبغ الاقتصادي بحثه العلمي بتحيزاته ومن هنا تأتي أهمية بحث التحيزات العلمية للاقتصاديين وهي التي ربما ينشأ عنها أسس غير علمية لعلم الاقتصاد أو في كلمة واحدة ننتقل من التحيز إلى التزييف.
وماذا تخبرنا الفصول المفتاحية للكتاب؟
(1) قبل ذلك رأيت في صفحة المحتويات تحيزات من الكاتب.... تقبلها قواعد الكتابة في فلسفة العلم:-
- تحيزات إزاء ترتيب فصول الكتاب حيث قدم مسائل الإنتاج والسكان على مسائل التوزيع والتجارة الدولية والاستهلاك والإثمان رغم أن الأخيرة أقدم في التناول من قبل الكتابات الاقتصادية من الأولى.
- وتحيزات إزاء اختيار موضوعات معينة وتجاهل بحث موضوعات أخرى.... ولعل أبرز الغائبين عن القائمة هي النقود:- ذلك الغائب الخطير عن الكتاب والذي كان له أثر كبير... ليس فقط في الدراسات الاقتصادية وتطور نظريات علم الاقتصاد وإنما أيضا على مستوى الممارسات والسلوك الاقتصادي للأفراد والمؤسسات والدول... ويكفى هنا أن أذكر أثر فك الارتباط بين الدولار والذهب عام 1971 وما أدى إليه ذلك من انتشار المضاربة على كل شيء – كأثر سلوكي - وأن ما كان صحيحاً على مستوى التنظير الاقتصادي قبل ذلك لم يعد صحيحاً... لماذا؟!... لأنه لم يعد هناك سبب ونتيجة ولا معرفة حتمية وإنما فقط معرفة احتمالية.
- تحتوى هذه الصفحة كذلك تحيزات إزاء وضع خطط أخرى يوحي بها العنوان.... فقد كان من المتوقع مثلاً أن نجد فصلا في الكتاب بعنوان: تحيزات الاقتصاديين.. وفصلاً أخر عن الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد... ليسهل على القارئ غير المتخصص فهم الفرق بين الأمرين.
(2) في التقديم:-
‌أ- هناك إقرار منذ البداية بالحاجة إلى تقديم للكتاب ... ولكن السؤال: ما هو التقديم الذي كنا بحاجة إليه؟ هل هو التقديم الحالي للكتاب فقط؟ أم أننا كنا ... وما نزال... في حاجة إلى مزيد من التقديم المتعلق بمفاهيم وردت بالكتاب.... فقد تحيز الكتاب لمفهوم "فلسفة العلم" وذكر مقصوده منه... وهو يلقى قبولاً مما قرأت في تعريف "فلسفة العلم".... غير أن الكتاب تحيز ضد مفاهيم أخرى نحن في حاجة ملحة لمعرفة مقصوده منها مثل: مصطلح "العلم" سماته وخصائصه وتطور مفاهيمه منذ أن عرفه الإنسان مصدراً من مصادر المعرفة وحتى الآن... ومصطلحات "النظرية" و"الفرضية" و"القانون العلمي"... ثم تصنيف العلوم.. ومشكلات "العلوم الاجتماعية"– .... ثم "علم الاقتصاد" وتعدد تعريفاته وتطورها بتطور موضوعاته ومناهجه وعلاقته بالعلوم الأخرى ومدى استفادته منها في إنشاء فروع جديدة وتوسيع دائرته ... وتحديد المقصود بالأسس العلمية وغير العلمية لعلم ما ووسائل التعرف عليها –..... ثم مصطلح "التحيز" وسماته وأنواعه مع التركيز على التحيز المعرفي وكشف خطورته... ومصطلح "الموضوعية" والذاتية كذلك.
وتتضح أهمية الحاجة للتعرف على المقصود من هذه المفاهيم وغيرها مما يلي:-
- ورود هذه المفاهيم في سياقات غير التي تخبر بها مقاصدها لدى كتاب آخرين كأن يرد مثلاً في صفحة 245 (آخر الفقرة الثانية) وفي صفحة 274 (بداية الفقرة الثانية) ما يفيد بأن "نظرية" ما... محل "إيمان" الاقتصاديين... بينما ما درسناه أن النظريات محل اختبار دائم وليست محل إيمان ولا كفر... ومن ثم وجب أن نتعرف على مقصود الكتاب بكلمة "نظرية" في هذا السياق.... نظراً لأن معرفتي بالنظرية تنصرف إلى أنها مجموعة من المفاهيم والتعريفات والقضايا المترابطة التي تقدم صورة منسقة للظواهر عن طريق تحديد العلاقات بين المتغيرات، بهدف تفسير تلك الظواهر والتنبؤ بها. أو مجموعة من القضايا المتسقة منطقياً والقابلة للاختبار امبريقياً.... والقضايا التي تتضمنها النظرية يمكن اعتبارها قوانين علمية إذا كان قد تم التحقق منها بدرجة كافية حصلت معها على قبول واسع النطاق... أو اعتبارها فرضيات إذا لم يكن قد تم التحقق من صدقها بدرجة كافية.
- ورود بعض المصطلحات بأكثر من تعريف كالملكية الخاصة (لها تعريف ص 89 وتعريف مختلف في الفقرة الأخيرة من ص 94).
‌ب- فكرتان متناقضتان يقدم بهما أستاذنا الدكتور جلال أمين كتابه هما:-
- الأولى يتحدث فيها عن "تحيز" الاقتصاديين للعصر الذي يعيشون فيه وتغيرات لحقت بأفكارهم مع تغير الظروف الاقتصادية والتطور التكنولوجي وتغير العلاقات الطبقية.
- والثانية يتحدث فيها عن تمسكهم بمقولات معينة واعتبارها نهائية وعن سمات علم الاقتصاد التي بقيت صامدة على مر السنين... فإذا به كما يدرس اليوم يحمل أهم ملامح نشأته الأولى... كما تتحدث عن رؤية حملت سمات معينة منذ القرن الثامن عشر واستمرت تطبع علم الاقتصاد حتى اليوم بنفس الطريقة!! وعن قيود كبلت علم الاقتصاد لأكثر من ثلاثة قرون.
- الفكرة الأولى تبين أن هناك ديناميكية وتطور لدى الاقتصاديين... فهم يبحثون عن إجابات جديدة لمشكلات مجتمع مختلف يعيشون فيه... إنها عبارة توحي بانتشار روح علمية لدى هؤلاء وإذا جاز أن نسمي انشغالهم بدراسة ظروف عصرهم وتغير أرائهم بتغير هذه الظروف (التي هي المادة الخام لبحثهم)....إذا جاز أن نسمي هذا تحيزاً وهي تسمية تحتاج إلى مراجعة فهو تحيز مقبول من العلم... إذ ليس متصوراً أن ينشغل البحث العلمي في الاقتصاد بابتكار ظروف وظواهر اقتصادية أو تخيلها ثم القيام بدراستها.
- أما العبارة الثانية فتوحي بتحجر فكري لمجموعة أو "جماعة" ترتل "كتابها المقدس" المتمثل في مقولات الاقتصاديين المعتمدة جيلاً بعد جيل...!!
- فهل يمكن أن يتسق وصفان متناقضان هذا التناقض البين؟!!
‌ج- مازلت في التقديم حيث يُبَشْرُ القارئُ بالتحرر من أسر الحب الأعمى إزاء شيء غير جدير بالحب هو علم الاقتصاد.... فهل ساهم الكتاب في تحقيق هذه البشارة؟!... إذا كان قد نجح فهو كتاب في التحيز حيث يخرج المبشرين من تحيز لصالح علم الاقتصاد إلى تحيز "ضد" هذا العلم..... ويمكن أن نسمي الكتاب إذن - دون أن يمثل ذلك نقداً – "تحيزات الدكتور جلال أمين ضد علم الاقتصاد والاقتصاديين".
فإذا انتقلنا إلى الفصل الأول والثاني وهما الفصلان المفتاحيان اللذان نبحث فيهما عن وسيلة لمناقشة أفكار الكتاب والحكم عليه نجد ما يلي:-
في الفصل الأول:-
أ‌) ما يصل إليه الاقتصادي من فهم الظواهر وما يستخلصه منها من معانٍ وتعميمات أو قوانين سيكون متأثراً بأفكار ومشاعر مسبقة... ويرى الكاتب في ذلك موقفاً متحيزاً من الباحث الاقتصادي ... بينما ما تعلمته أنه ليس فقط عالم أو دارس الاقتصاد هو من يرى الأشياء ملونة ومختلطة بموروثاته وأفكاره المسبقة.. ولكن عالم الطبيعة كذلك يرى الظاهرة ملونة بأفكاره المسبقة وموروثاته... (فضلاً عن أن الفنان والروائي لا يكتفي بمجرد رؤيتها ملونة بل يضيف إليها رتوشاً جديدة)... ورؤية الظواهر ووسائل الرؤية معضلة العلم في وقتنا الحالي.... إذ.. لا يستطيع أحد دارسي علم من العلوم أن يؤكد على أن ما يصفه من ظواهر... وما يدرسه من أنساق ويحاول تفسيره هو عين هذه الظواهر... والأنساق تماماً كما هي في الواقع... وإنما يقول أنها كذلك باحتمال معين... لقد تحول العلم من المعرفة الحتمية إلى اللا يقين... وإذا كانت طبيعة الظواهر الفيزيائية قد أجلت ظهور هذه المعضلة (حتى صاغها هايزنبج في مبدأ اللا تعين والذي أفهمه بأنه تعبير عن مراوغة الظاهرة الطبيعية المدروسة وتأثرها بالباحث وبأدوات القياس) فإن الظواهر الاجتماعية مراوغة بطبيعتها ومعيقة لتطور علومها بسبب الوعي بمراوغتها.... وبسبب وعي وحداتها المدروسة بخضوعها للرصد والمراقبة فإذا بها تغير من سلوكها ربما لتضليل الراصدين!!... ومن ثم تختلف المشاهدات والنتائج وتبرز الاحتمالية منتصرة منذ البداية في العلوم الاجتماعية وملائمة لها أكثر من العلوم الطبيعية... وليس لأن الباحثين يقحمون مشاعرهم وأفكارهم من خارج الظاهرة ويقحمونها عليها فتأتي نتائج بحوثهم متأثرة بهذه الأفكار والمشاعر... لأن فعل الإقحام الواعي هنا يعد تزييفاً مقصوداً ولا يقتصر على كونه تحيزاً... فالتحيز يقع في النظر إلى الظاهرة أي في المذهب أو وجهة النظر وهو تحيز مقبول ... أما التزييف فيقع في النظر في الظاهرة أي مرحلة التفسير والتأويل ... أي في العلم وهو غير مقبول... وغالبا ما يملك العلم أدوات فاعلة لاكتشافه وفضحه.
ب‌) تناول الكاتب أربعة مصادر محتملة لتحيز الباحثين في العلوم الاجتماعية هي:-
1. المصلحة الخاصة.... (والسؤال إزاء ما ورد من أمثلة على هذا المصدر هو.... ما علاقة ذلك بالعلوم الاجتماعية أو بأي علم من العلوم؟؟ أنها تحيزات مذهبية).
2. وقوع أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية مهمة تشغل الناس (والسؤال هنا هل كان مطلوباً من كينز مثلاً أن يولي ظهره لأزمة الكساد الكبير حتى لا يكون متحيزاً... بأي معنى يمكن أن يكون الاهتمام بالظواهر الحالية تحيزاً علمياً؟؟).
3. طبيعة الموارد المتوفرة في الدولة... (والسؤال... هل كان مطلوباً من توماس الإكويني أن يعالج الظواهر الاقتصادية التي عالجها سميث بعده بخمسة قرون حتى لا يكون متحيزاً؟!.... وما مصدر التحيز العلمي في تطور مفهوم الثروة بتطور وسائل توليدها والحصول عليها؟؟!)
4. تأثر البحث العلمي بما يظهر في فروع أخرى من فروع المعرفة العلمية من تطورات مهمة،... وهو مصدر يحتاج إلى مراجعة في ضوء مفهوم التحيز حيث أن المسألة هنا تتعلق بالاستفادة من وسائل الوصول إلى الإدراك العلمي التي أنجزتها علوم أخرى... وللباحثين جهودهم في النظر في مدى ملاءمة بعض هذه الوسائل لتخصصاتهم كما يقع على عاتقهم ابتكار الوسائل المناسبة للوصول لهذا الإدراك دون أن يكون في ذلك تحيز.
- يتحدث الكاتب بعد ذلك عن مصادر أخرى للتحيز: ومنها جهل الباحثين بجانب معين من موضوع بحثهم (الجهل بالعالم النامي وتفسير نموه لدى التقليديين) وهذه العبارة عليها عدة ملاحظات أولها: أن هذه المسألة متعلقة ببنية العلم ومفهوماته وطرائقه... إذ كيف نلوم باحثاً أو نتهمه بالتحيز ضد نسق أو ظاهرة نقر بأنه لم يرها ولم يلاحظها؟.... أليست الملاحظة – على الأقل في وقت التقليديين- هي أول مراحل المنهج الاستقرائي كمنهج علمي؟! ثانياً: ألا يتناقض ذلك الاتهام مع ما ورد في الفصل الحادي عشر "التنمية الاقتصادية" بل مع كتاب "كشف الأقنعة للكاتب أيضاً" من أن تناول الباحثين الغربيين لمسألة النمو والتنمية في الدول المتخلفة كان مغرضاً ومتحيزاً وهادفاً إلى تحقيق مصالح معينة لدولهم ولمنظومة الرأسمالية العالمية؟! ..... هل كان عدم تناولهم لظاهرة النمو تحيزاً ... وكان تناولهم لها تحيزاً أيضاً؟! ثالثاً: لماذا كان مطلوباً من التقليديين أو غيرهم – حتى لا نصفهم بالتحيز - أن يدرسوا لنا ظواهرنا ويفسروا لنا سلوكنا؟!! رغم إدراكنا بتحيزهم ووعينا باختلافنا عنهم حضارياً وثقافياً ونظرة إلى الحياة؟ ألا تبرز نظرية المؤامرة بين ثنايا هذا الخطاب؟...
حتى الآن لا اتفق مع أستاذنا الدكتور جلال أمين إلا في وجود نوعٍ واحدٍ من التحيز هو التحيز المذهبي ولا أرى في كل ما عرضه نموذجا واحداً لتحيز معرفي أو علمي... وهو ما يؤكد على ما سبق ذكره من أهمية ضبط مصطلح "التحيز العلمي أو المعرفي" حتى يقف القارئ مع سيادته على أرضية واحدة.
ومن ثم ننتقل إلى استعراضه للقنوات التي تجري فيها التحيزات.... وتؤثر في نتيجة البحث العلمي... فتلونها وتعكر صفوها... وقد حددها بخمس قنوات هي:-
1. أثر التحيز في تحديد الأسئلة وهو تحيز مذهبي لم يدلل الكاتب على كيفية تأثيره في نتيجة البحث العلمي وتلوينها وتعكير صفوها.
2. أثر التحيز في نوع الإجابة (إجابة كل من كينز والكلاسيك عن محددات حجم الناتج القومي... وقول الكلاسيك بأنه العرض... بينما قال كينز بأنه الطلب... وأن كينز كان متحيزاً للأجل القصير... بينما كان الكلاسيك متحيزين للأجل الطويل)... وإذا كانت المسألة لا علاقة لها بالصحة أو الخطأ... فأنني أرى أن لا علاقة لها أيضا بالتحيز... ولا أثر للتحيز هنا في نوع الإجابة... لأن الزمن ليس عنصراً شخصياً ولا انتماءً مذهبياً وإنما هو بعد موضوعي من أبعاد الظرف الاقتصادي... وزمن الكلاسيك لم يكن هو زمن كينز ولم تكن مشكلاتهم هي مشكلاته... والأكثر أنهم لم يجمعوا على رأي في أن العرض هو المحدد لحجم الناتج القومي... ألم يعترض مالتس على قانون ساي للأسواق وكان له نظرية في فاعلية الطلب، وكلاهما كلاسيكي؟!
3. القناة الثالثة تتمثل في أن التحيزات والأفكار المسبقة تؤدي إلى اختلاف موضع التأكيد الذي يختاره الباحث.... وهي مسألة كما تكشف عنها الأمثلة الواردة في الكتاب لا علاقة لها بالتحيز.... بل علاقتها بأدوات البحث العلمي ومهارة الباحث في استخدامها وابتكار الأدوات المناسبة لدراسة الظواهر المركبة كالظواهر الاجتماعية التي لا تحتمل العوامل المؤثرة فيها أو المحددة لها عملية العزل التي يمارسها الباحث الكيميائي في معمله فمقولة "مع بقاء الأشياء الأخرى على حالها" ليست مقولة متحيزة ولكنها متعلقة بوجود أو عدم وجود الأداة العلمية التي تمكننا من افتراض عدم بقاء هذه الأشياء الأخرى كما هي لأنها لن تبقى.
4. يقر المؤلف بأن عملية التصنيف عملية أساسية في البحث العلمي بعد أن وضعها في العبارة السابقة مباشرة باعتبارها من قنوات تأثير التحيز في نتائج البحث (والسؤال كيف تتفق قضية موضوعية كعملية التصنيف مع مسألة ذاتية كالتحيز؟!)... ورغم اختلاف معايير التصنيف إلا أنه يبقى أنها معايير أي موازين أو مقاييس مقبولة لدى البحث العلمي والطعن فيها طعن في بنية البحث العلمي كما يمارس اليوم... وهو طعن مقبول ومشروع في ضوء الوعي بعدم كفاية العلم وحده بكل ما شمله من تطور لدراسة الظواهر الاجتماعية بتعقيداتها وتركيبها ومراوغتها دراسة توصل إلى إدراك معرفي صحيح بشأنها... ولكن يبقى أن الأمر لا علاقة له بالتحيز!!
5. اللغة كقناة تؤثر من خلالها التحيزات في البحث العلمي، اللغة المحملة بكلمات "أفضل" و"محموداً" و"إيجابياً" وبالتعبيرات والتشبيهات المجازية ليست هي لغة العلم... وتخبرنا كتب فلسفة العلم ومناهج البحث العلمي بأن الرياضيات هي لغة المنهج العلمي وما لا يمكن وضعه في إطار رياضي لا يمكن أن يكون علماً...(وتصبح الإشكالية هي ابتكار الرياضيات الملائمة لترييض علم من العلوم في ضوء طبيعة خاصة بهذا العلم... فقد توقف آينشتاين مثلاً عن عرض نظريته في المجال الموحد انتظاراً لتطوير رياضيات ملائمة لصياغة هذه النظرية الفيزيائية... كما كان من المستحيل ظهور نظرية النسبية دون أن تسبقها الهندسات اللاإقليدية ... كما تم ابتكار نظرية المباريات كأول نظرية رياضية غير فيزيائية صممت لتلائم العلوم الإنسانية والاجتماعية) ولا شك أن الرياضيات تتعلق بالتجريد الذي يجنب لغة العلم الوقوع في أسر التشبيهات والمحسوسات والعواطف والأهواء وهو ما يحقق إغلاق اللغة كقناة من قنوات التحيز.... غير أن ترييض العلوم الاجتماعية سوف يوقعنا في معضلة المنطق الصوري ويبعدنا عن الاتجاه الإنساني في دراسة الظواهر الاجتماعية الذي يستشف من بعض فقرات الكتاب أن استأذنا المؤلف يدعو إليه.
في الفصل الثاني:- التحيز في علم الاقتصاد:-
- يسجل الكاتب الهدف الرئيسي للكتاب وهو: تحفظ مهم يتمثل في أن ما حدث بظهور كتاب ثروة الأمم وما شهده القرن السابق عليه مباشرة من محاولات للسير في نفس الطريق لم يكن بالضبط هجراناً لمواقف غير علمية في شرح الظواهر الاقتصادية وإحلالاً "للموقف العلمي" محلها، بل كان في الحقيقة أقرب إلى إحلال نظرة غير علمية محل نظرات غير علمية بدورها... تحيزات محل تحيزات.
- يسجل الكتاب كذلك مقدمة أخرى هي:- "الاقتصاديون اليوم يحملون نفس تحيزات آدم سميث وأصحابه أثناء دراستهم أو تفكيرهم في الظواهر الاقتصادية، أو يحملون تحيزات قريبة جداً منها، بل الأرجح أن هذه التحيزات تغلغلت في أذهانهم بدرجة أعمق بكثير مما كانت عليه لدى آدم سميث وأصحابه.
- المقدمتان في غاية الخطورة وتحتاجان إلى إثبات فنحن نريد الآن أن نتعرف على ما يلي:-
1) تحيزات آدم سميث وتحيزات السابقين عليه.
2) تحيزات الاقتصاديين اليوم وعلاقتها بتحيزات سميث وإثبات تغلغلها في أذهانهم.
- قبل أن يتعرض الكتاب لهذه التحيزات يتعرض لنظام المنافسة الكاملة وشروطها وكأن هذا النظام ابتكر على يد مفكر واحد... وضع شروط المنافسة وحدد مفهومها بشكل نهائي وإلى غير رجعة... بينما تفصح كتابات الاقتصاديين أن مفهوم المنافسة شهد تطوراً متتالياً على يد كثير من الكتاب فلدى آدم سميث لم تكن تعني أكثر من حرية الدخول والخروج من السوق دون أن ينشغل بعدد المتعاملين أو تجانس السلعة أو توفر المعلومات وإنما ساهم اللاحقون كفالراس ومارشال في وضع هذه الشروط دون الوقوع في أسر تعريف آدم سميث لها أو مفهومه عنها.
والآن إلى التحيزات المزعومة:-
1. هناك ميل قوي لدى الاقتصادي إلى افتراض العقلانية أي افتراض أن الإنسان في سلوكه الاقتصادي لا يحتكم إلا إلى مقتضيات العقل... "الإنسان الاقتصادي".... والحقيقة أنني لا أعرف "هذا الاقتصادي" الذي لديه اليوم ميل قوي لافتراض العقلانية والرشد الاقتصادي فمنذ فترة طويلة هناك دراسات متتالية تناقش مبدأ العقلانية... وتعكس بعض جوانب نظرية كينز ميولاً غير عقلانية لدى المستهلكين والمنتجين وتصرفات غير مرتبطة بالرشد الاقتصادي.... كما تطور الآن فرع من فروع علم الاقتصاد هو الاقتصاد السلوكي... وحصل أستاذ بجامعة هارفارد عام 1999 على ميدالية مؤسسة الاقتصاد الأمريكية عن دراسة أسفرت عن عدم واقعية افتراض الرشد الاقتصادي... كما تنامت بحوث الاقتصاد التجريبي باستخدام نظرية المباريات ... وأجريت تجارب على نظرية المنفعة الترتيبية ومنحنيات السواء منذ عام 1931... وهناك تجارب تشمبرلين على طلبة محاضراته... كما حصل فيرنون على جائزة نوبل عام 2002 في الاقتصاد لإجرائه اختبارات معملية في الدراسات الاقتصادية...إن المفهوم السائد اليوم لدى عديد من الاقتصاديين هو "محدودية الرشد الاقتصادي"... ولدى البعض مثل "ليستر ثارو" في كتابه "الرأسمالية ضد الرأسمالية" هو تعدد مفاهيم الرشادة حيث ضرب مثلاً باليابانيين الذين يفضلون استهلاك سلع يابانية الصنع حتى لو ارتفع ثمنها بـ 25% أكثر من بدائلها المستوردة متسائلا... كيف يمكن أن تصف هذا التصرف بعدم الرشد إذا قال لك الياباني أنه على وعي بأن شراءه للسلع اليابانية هو ضمان لرفعة بلاده.... ومن ثم فإن وصم الاقتصاديين بهذا الجمود يحتاج إلى مراجعة من استأذنا.
2. الميل القوي لدى الاقتصادي إلى افتراض أن الإنسان لا تحركه إلا مصلحته الخاصة... بينما تدل الكتابات الاقتصادية منذ آدم سميث نفسه على فهم الاقتصاديين لوجود دوافع أخرى غير الأنانية تحرك السلوك الاقتصادي للأفراد... فلم يفترض سميث أن الأنانية وحدها هي محرك السلوك الاقتصادي... بل ذكر في ثروة الأمم "أن المجتمع يضع نظاما طبيعيا يتنازعه ثلاثة أزواج من الدوافع هي: - 1) حب النفس والتعاطف. 2) الرغبة في الحرية مع الإحساس بالتواؤم. 3) الميل للعمل والميل للمقايضة والتبادل".
3. وجد الاقتصادي دائما من السهل أن يفترض أن سعي المرء لتحقيق مصلحته الخاصة يؤدي دائما إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع ككل... لم يراجع الاقتصاديون وحدهم هذه المقولة وإنما اهتم علم الاجتماع بمراجعتها كذلك ولم تصبح الآن "وِرْدَاً من أوراد الصوفية يردده الاقتصاديون في الصباح والمساء" بل يفهم الاقتصاديون اليوم جيداً بأن مصالح بعض فئات المجتمع تتعارض مع مصالح فئات أخرى.
4. النظرة الميكانيكية للإنسان... وللعالم انهارت بانهيار فيزياء نيوتن... وفي علم الاقتصاد تعكس نظرية كينز 1936 وجود مستهلكين لهم ميول وعواطف... ومستثمرين يتوقعون في ظروف عدم التأكد .... وقطعان من المضاربين تحركهم الشائعات وليس الحسابات الاقتصادية... وهو ما يقوض فكرة ميكانيكية النظام الاقتصادي ووحداته... ومن ثم يحتاج القول باستمرار تمسك الاقتصاديين بأقوال محددة ونظرة خاصة للظواهر الاقتصادية من آدم سميث حتى الآن إلى مراجعة للأسباب التالية:-
- تناقض هذا القول مع أقوال أخرى أوردها الكتاب.... ففي الفصل الثالث هناك استشهاد برأي الاقتصادي جون كينيث جالبريت ورأي الاقتصادي أمارتيا سن يبرزان رؤى للظواهر الاقتصادية تختلف عن رؤية آدم سميث وتتعارض مع رؤى الأقدمين من الكلاسيك والنيو كلاسيك.
- وقوف الكتاب في فصل السكان عند عرض نظرية مالتس والادعاء بسيادتها لمدة تزيد على قرنين من الزمان... بينما تطور فرع جديد للدراسات السكانية يسمى "اقتصاديات الموارد البشرية" تدرس فيه نظريات عديدة تالية لنظرية مالتس في السكان.
- اقتصار فصل الاستهلاك على عرض نظرية المنفعة الحدية مع علم الكاتب بوجود نظريات لاحقة... وبتعرض مبدأ النفعية لانتقادات متلاحقة من علماء الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس... كما أن انتقال علم الاقتصاد للاهتمام بظاهرة الاستهلاك على المستوى الكلي تضمن الإشارة إلى مستهلكين من لحم ودم تحكم تصرفاتهم عوامل شخصية وليس عوامل موضوعية فقط وتخضع سلوكياتهم للأهواء والتباهي والمحاكاة بجانب حساباتهم الاقتصادية.
- الخلط في فصل الإنتاج بين نظرية الإنتاج على المستوى الجزئي وبين الناتج القوي وما يدخل فيه من أنشطة وما لا يدخل... فعلى المستوى الجزئي لا تنكر نظرية الإنتاج على نشاط معين كونه نشاطاً إنتاجياً أم لا فهي تدرس سلوك المنتج الفرد دون أن تمنع بعض الأنشطة وتسمح لأخرى بأن تكون منتجة... ألا يمكن لأي دارس اقتصادي باستخدام أدوات نظرية الإنتاج على المستوى الجزئي أن يدرس سلوك المنتج الصناعي (المنشأة الصناعية) والصناعة بأكملها والمنشأة الزراعية أو التجارية وكذلك سلوك الموسيقي الذي يعزف لمتعته الشخصية أو حتى سلوك ربة المنزل وهي تمارس أعمالها، باعتبار ما يقومان به نشاطاً إنتاجياً؟... المشكلة أن الحسابات القومية (وهي تقع في إطار دراسة الإنتاج الناتج على المستوى الكلي) لا تدخل كثير من النشاطات التي قد تكون منتجة ضمن حسابات الناتج القوي لعدم وجود طريقة دقيقة لتقديرها... وهي مشكلة قد تتسبب في إهمال نشاطات أكبر بكثير وأخطر من الأنشطة التي يضرب بها الكاتب أمثلة في الكتاب، فإذا كان عدم إدراج نشاط ربة المنزل في منزلها والموسيقيين الهواة وأولئك الذين يقضون أياماً مرحة على الشواطئ يلفت نظر أستاذنا فإن تجارة كثيرة مهربة وصناعات تتم "تحت السلم" ومخدرات ودعارة واقتصاد كامل خفي لا يمكن رصده ولا تقديره ضمن الناتج القومي وهو يمثل من حيث القيمة المادية أضعاف أضعاف ما يمثله نشاط المرأة في بيتها (الذي يقر الكاتب في موضع آخر من الكتاب أنه تراجع في المجتمعات الحديثة لصالح الأنشطة السوقية فالمرأة تعمل خارج المنزل ثم تطلب الأكل جاهزاً من محلات الوجبات السريعة وتستأجر من ينظف المنزل وتدفع بالملابس لمن ينظفها ويكويها...ألخ) أو ما يمثله نشاطات الهواة من الموسيقيين والمطربين!!.. ورغم تلك المشكلة فإنها لا تخص علم الاقتصاد ولا هي ناشئة عن تحيزات للاقتصاديين، وإنما تخص تنظيمات اجتماعية وقواعد تنظيمية ودينية وقانونية.
بناء على كل ما تقدم فإنني لا أستطيع أن أرى فيما قدمه الكتاب أدلة كافية أو حتى مناسبة لإثبات تحيز الاقتصاديين لمقولات تم صكها منذ آدم سميث.... أو جمود علم الاقتصاد عند نظرية المنفعة الحدية لسلوك المستهلك ونظرية مالتس في السكان ونظرية النفقات النسبية في التجارة الدولية لريكاردو.....وليس هذا تحيزاً لصالح علم الاقتصاد بل إقرار بأنه كغيره من العلوم ربما قام في بدايته على أسس غير علمية وربما تلحق به الآن مقولات غير علمية وربما وقع بعض باحثيه في شرك التحيز..... ولكنه كغيره من العلوم أيضاً يصحح مساره ويعيد اختبار مقولاته ونظرياته مرة بعد أخرى ويكشف النتائج المزيفة لبعض البحوث...وشكراً،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.