بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

الخميس، 28 أكتوبر 2010

ثلاث قصص قصار (2)

ثلاث قصص قصار
بقلم: عبد الغني عبده
النظام
باع "عواد" بقية قطعة الأرض الزراعية التي ورثها عن أبيه بعد أن استأثر لنفسه بناصية مميزة زرع فيها بعض الأعمدة الخرسانية وتعهدها حتى استطاع أن يضع فوقها – بشق الأنفس – سقفاً؛... ليتم بعد ذلك أكبر أولوياته: زواج "الحيلة" الذي جاءه بعد إحدى عشرة ولادة فاشلة باستثناء سبع بنات – من زوجة واحدة ماتت وهي تلده –....
عندما أصيب "الحيلة" بتليف الكبد – جراء اختلاط مياه الشرب بمياه المجاري - حصلت زوجته على الطلاق واستولت على المنزل...
وبينما كان عواد منشغلاً – بعد أن بلغ من الكبر عتياً – بالتسلل حول المنزل لاقتناص نظرة إلى أحفاده الذكور الثلاثة (الذين ما أن يرونه حتى يمطرونه بالحجارة مرددين الأغنية الشهيرة: "عواد باع أرضه ياولاد، شوفوا طولو وعرضوا يا ولاد....) لم تُجِد السبع بنات (اللاتي وكأنهن لا يملكن أية مهارة ولم ينلن أي قدر من التعليم) سوى ممارسة أقدم مهنة في التاريخ لتدبير نفقات علاج "الحيلة" وتجهيز كفن "عواد" والتكوم تحت سقف آخر.
***
أطلال نظام
باع "عواد" قطعة الأرض الزراعية التي ورثها عن أبيه دون أن يكون لديه رفاهية الاستئثار لنفسه بناصية مميزة كان يحلم بأن يزرع فيها بعض الأعمدة الخرسانية ويتعهدها حتى يستطيع أن يضع فوقها سقفاً. ليتم بعد ذلك أكبر أولوياته: زواج "الحيلة" الذي جاءه بعد إحدى عشرة ولادة فاشلة باستثناء سبع بنات – من زوجة واحدة ماتت وهي تلده –....
عندما أصيب "الحيلة" بتليف الكبد – جراء بلهارسيا مزمنة - حملت زوجته أقفاص الخضار والفاكهة على رأسها لتعول الأسرة تاركة صغارها في المنزل...
وبينما كان عواد منشغلاً – بعد أن بلغ من الكبر عتياً – باقتناص أحفاده الذكور الثلاثة (الذين ما ينفكون مرددين الأغنية الشهيرة: "عواد باع أرضه ياولاد، شوفوا طولو وعرضوا يا ولاد....) وإشباعهم ضرباً وسباً.... لم تجد السبع بنات (اللاتي لا يملكن بالفعل أية مهارة ولم ينلن حقاً أي قدر من التعليم) سوى الموافقة على الزواج بشقي أو مسن خيجي أو تاجر مخدرات أو قاطع طريق أوناقص عقل ودين.... فقد كان هم كل واحدة منهن هو التكوم تحت سقف آخر.
***
نظام يوتوبيا
باع "عواد" – مضطراً - نصف قطعة الأرض الزراعية التي ورثها عن أبيه طلباً للذرية. وبعد أن وضعت إمرأته توائمها الثمانية دفعة واحدة، بعد عشر سنوات من الحرمان والمعاناة والمحاولات الفاشلة كان مضطراً لعرض أرضه الباقية جزءاً إثر الآخر لمواجهة نفقات تربية وتعليم هذا الفريق؛ فضلاً عن علاج طويل الأمد لزوجته التي نجت من الموت بأعجوبة.
عندما سافر ابنه "جميل" لاحقاً لأخوات ثلاثة (جميلة الأولى "دكتوراه في علوم الذرة" وجميلة الثانية "دكتوراه في علوم الفضاء" وجميلة الثالثة "دكتوراه في تكنولوجيا المعلومات") كان سفره منحة للحصول على الدكتوراه في أمراض الكبد المتوطنة في مصر – جراء البلهارسيا أو اختلاط مياه الشرب بمياه المجاري ....
وبينما كان عواد منشغلاً – بعد أن بلغ من الكبر عتياً – بزيادة رقعة الأرض الزراعية التي يملكها مستثمراً تحويلات بناته الثلاثة الوفيرة؛ مدعماً بجهود بناته الثلاثة الأخريات اللائي تخرجن في كلية الزراعة (جميلة الخامسة "بساتين" وجميلة السادسة "أفات نباتية" وجميلة السابعة "إنتاج حيواني")... كانت "رابعة" الجميلات تقف تحت سقف أخر.... سقف القاعة الكبرى بدار الأوبرا المصرية لتتسلم جائز الدكتور "زويل" للغناء العربي بعد أن شدت بأغنيتها الجديدة: "عواد زاد أرضه يا بلاد ....عواد زاد أرضه يا بلاد ..... ضعفين والتالت يا بلاد.... والرابع جاي يا بلاد... بعد المحصول يابلاد... هيضم الغلة يا بلاد... وهيجني الفول يا بلاد.... عواد زاد أرضه يا بلاد...عواد زاد أرضه يا بلاد... ضعفين والتالت يا بلاد... والخامس ممكن يا بلاد.... بعد أما يسمن يابلاد ....ألفين بقراية يابلاد...إنتاج حيواني يابلاد... كندوز أو ضاني يا بلاد.... عواد زاد خيرك يا بلاد.... شربان من نيلك يا بلاد... عمًّال يناديلك يا بلادي ويقول:...عهدي وعهد ولادي يبقوا قنديلك يا بلادي... قنديل فـ ضلام ليلك هادي.... عواد زاد أرضه يا بلاد... زاد طوله وعرضه يا بلاد.....يا بلاد غنيلو يابلاد واسمعي مواويله يا بلاد..."
(تمت)
الرياض في: 28 أكتوبر 2010

الأربعاء، 6 أكتوبر 2010

حقيقة الأمر

حقيقةُ الأمرْ
(قصة قصيرة)
بقلم: عبد الغني عبده
***
سبعُ سنواتٍ، تقريباً، أسافر بين العمار والقاهرة. ومن خَبُرَ خط 12 (أو حتى الطريق السريع) يدرك مدى النعمة التي تمتعت بها؛ إذ خرجت من هذه السفرات اليومية دون حادثة مروعة؛ رغم أن وقوعها من الأمور العادية التي تصادف الغالبية... سبع سنوات تجعل الأمر روتينياً... حتى عندما تعطلت أكثر من سيارة جمعتني/ وكلما جمعتني "به"... لم أسمح لهذا الهاجس الذي سطع في رأسي (مشيراً إلى "أنه" ربما كان "نحساً") بأن يتحول إلى "عقيدةٍ" راسخةٍ مهما تكرر الحدث..... المفزع أن أحد أصدقائي همس في أذني (مفسراً إعراض الجميع عني – ركاب وسائقين – عندما أُهِلُ بطلعتي في الموقفين خلال الفترة الأخيرة) قائلاً: ما تزعلش مني... ح أقول لك الحقيقة.... كلهم.... كلهم فاكرينك "نحس"!!
(تمت)
الرياض في: 15 يونيو 2010

الأحد، 11 أبريل 2010

تعليق نقدي على كتاب "فلسفة علم الاقتصاد"

تعليق على كتاب أ.د. جلال أمين
فلسفة علم الاقتصاد - بحث في تحيزات الاقتصاديين
وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد
كتبه: عبد الغني عبده عبد الغني:-
أولا: سوف أبدأ من العنوان الرئيسي:-
فلسفة علم الاقتصاد... الذي يبين أننا أمام "كتاب في الفلسفة" وليس بحثاً علميا.... ومن ثم يكون السؤال: هل من حقنا تفنيد الكتاب وفقاً لالتزامه بمنهجية علمية؟ ... أرى أن ذلك لا يجوز... كل ما نستطيع عمله هو القيام بأمرين... أولهما: الرجوع إلى قواعد الكتابة في فلسفة العلم لنتوسل بها في الحكم على مدى الالتزام بهذه القواعد... وثانيهما: استنطاق الفصول المفتاحية في الكتاب لتخبرنا بمقاصده وأهدافه ومنهجيته ومقولاته الأساسية ومقدماته لنتوسل بها كذلك في الحكم على منجزاته.
فماذا تقول لنا قواعد الكتابة في فلسفة العلم؟....
1) الفلسفة:- موقف إنساني من العالم ومن العصر والمجتمع يستوعب كل جوانب الإنسان... وكل مشكلة تصلح أن تكون مادة للفلسفة بشرط أن تدرس في كليتها... أو بصورة مجملة.
2) تكاد فلسفة العلم أن تكون مرادفا للتحليل المنطقي لقضايا العلم أو لغته عند الكثير من الباحثين والقراء على السواء.
فمصطلح فلسفة العلم في تقدير د. صلاح قنصوة ... تفلسف حول العلم... وبقدر تعدد وجهات النظر الفلسفية العامة يمكن تعدد فلسفات العلم.
3) ليس هناك قائمة أو لائحة بالموضوعات التي ينبغي أن تُدرج تحت عنوان "فلسفة العلم" بحيث يكون الخروج عليها انحرافاً عن الموضوع أو جهلاً به... فللمشتغل بفلسفة العلم أن يتناول: ميتافيزيقا العلم وأسسه المعرفية وإبراز جوانبه القيمية أو تحليل لغته... هذا التناول أو ذاك منطلقاً من منحى فلسفي معين يضع فيلسوف العلم داخل مذهب بعينه.... ومن ثم لابد أن تتعدد فلسفات العلم بقدر تعدد المذاهب الفلسفية لأنها ليست سوى وجهة نظر فلسفية إلى العلم.... وفلسفة العلم لا تقدم معارف علمية بل تتفلسف حول تلك المعارف وحول المناهج التي توصلت إليها... فعندما يعمد رجال العلم إلى الكتابة عن نتائج بحوثهم وبيان أهميتها ومكانتها في تاريخ العلم، وأثرها المتوقع في حياة الإنسان، وغير ذلك من موضوعات تتجاوز التقرير المباشر لنتائج البحث العلمي وخطواته، فإنهم يدلفون إلى تخصص آخر هو فلسفة العلم.... والعلماء بصنيعهم هذا يتنازلون عن حصانتهم العلمية، ويقفون على قدم المساواة مع سائر فلاسفة العلم، بحيث يمكن أن نقبل كلامهم أو نعزف عنه دون أن يتوجب علينا أن نتخذ من آرائهم بينة فلسفية تكافئ في صحتها معادلاتهم وصيغهم العلمية.
4) شرطان للاشتغال بفلسفة العلم هما:-
• الوعي بالتزام منظور فلسفي يختاره المشتغل بفلسفة العلم ويؤثره على غيره، ويتسق في بحثه مع مذهبه أو وجهة نظره...(ما يعني أن لا مكان للحيدة إزاء ما يطرح من قضايا ومواقف وإنما هناك تحيز مذهبي!!!).
• إدراك المشتغل بفلسفة العلم أن العلمَ هو موضوع بحثه الفلسفي ومادته الخام التي يصوغها ويشكلها فلسفياً... ومن ثم ينبغي عليه الإلمام بما يتحدث عنه (وهو العلم) ومتابعة ما يدور فيه من تطور.... ومعرفة أحدث نظرياته ومفهوماته... فليس من المشروع – لدى فلاسفة العلم – اجتزاء فترة زمنية من تاريخه نستخلص منها حكماً مطلقاً على العلم بأسره.... فافتقاد الفهم للطابع التاريخي للعلم يحوله إلى نبت شيطاني أو كائن علوي هوى إلينا من السماء مكتمل الأعضاء والتكوين، لا نعرف له ماضياً ولا نتنبأ له بمستقبل...
ثانياً: العنوان الفرعي:-
بحث في تحيزات الاقتصاديين... وبعض تحيزات الاقتصاديين بحكم أشياء كثيرة يمكن فهمها وتبريرها وقبولها حتى من قبل العلم "علم الاقتصاد".... ولا تحتاج إلى بحث لأنها ليست معيبة ولا متهمة بل هي بديهية... فالاقتصادي وغير الاقتصادي الذي يؤمن بالمذهب الرأسمالي أو المذهب الاشتراكي متحيز في هذا الإيمان ولا يمكن لأحد أن يتهمه أو يبحث في "إيمانه" فهذا التحيز مسألة شخصية... المشكلة سوف تنشأ عندما يصبغ الاقتصادي بحثه العلمي بتحيزاته ومن هنا تأتي أهمية بحث التحيزات العلمية للاقتصاديين وهي التي ربما ينشأ عنها أسس غير علمية لعلم الاقتصاد أو في كلمة واحدة ننتقل من التحيز إلى التزييف.
وماذا تخبرنا الفصول المفتاحية للكتاب؟
(1) قبل ذلك رأيت في صفحة المحتويات تحيزات من الكاتب.... تقبلها قواعد الكتابة في فلسفة العلم:-
- تحيزات إزاء ترتيب فصول الكتاب حيث قدم مسائل الإنتاج والسكان على مسائل التوزيع والتجارة الدولية والاستهلاك والإثمان رغم أن الأخيرة أقدم في التناول من قبل الكتابات الاقتصادية من الأولى.
- وتحيزات إزاء اختيار موضوعات معينة وتجاهل بحث موضوعات أخرى.... ولعل أبرز الغائبين عن القائمة هي النقود:- ذلك الغائب الخطير عن الكتاب والذي كان له أثر كبير... ليس فقط في الدراسات الاقتصادية وتطور نظريات علم الاقتصاد وإنما أيضا على مستوى الممارسات والسلوك الاقتصادي للأفراد والمؤسسات والدول... ويكفى هنا أن أذكر أثر فك الارتباط بين الدولار والذهب عام 1971 وما أدى إليه ذلك من انتشار المضاربة على كل شيء – كأثر سلوكي - وأن ما كان صحيحاً على مستوى التنظير الاقتصادي قبل ذلك لم يعد صحيحاً... لماذا؟!... لأنه لم يعد هناك سبب ونتيجة ولا معرفة حتمية وإنما فقط معرفة احتمالية.
- تحتوى هذه الصفحة كذلك تحيزات إزاء وضع خطط أخرى يوحي بها العنوان.... فقد كان من المتوقع مثلاً أن نجد فصلا في الكتاب بعنوان: تحيزات الاقتصاديين.. وفصلاً أخر عن الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد... ليسهل على القارئ غير المتخصص فهم الفرق بين الأمرين.
(2) في التقديم:-
‌أ- هناك إقرار منذ البداية بالحاجة إلى تقديم للكتاب ... ولكن السؤال: ما هو التقديم الذي كنا بحاجة إليه؟ هل هو التقديم الحالي للكتاب فقط؟ أم أننا كنا ... وما نزال... في حاجة إلى مزيد من التقديم المتعلق بمفاهيم وردت بالكتاب.... فقد تحيز الكتاب لمفهوم "فلسفة العلم" وذكر مقصوده منه... وهو يلقى قبولاً مما قرأت في تعريف "فلسفة العلم".... غير أن الكتاب تحيز ضد مفاهيم أخرى نحن في حاجة ملحة لمعرفة مقصوده منها مثل: مصطلح "العلم" سماته وخصائصه وتطور مفاهيمه منذ أن عرفه الإنسان مصدراً من مصادر المعرفة وحتى الآن... ومصطلحات "النظرية" و"الفرضية" و"القانون العلمي"... ثم تصنيف العلوم.. ومشكلات "العلوم الاجتماعية"– .... ثم "علم الاقتصاد" وتعدد تعريفاته وتطورها بتطور موضوعاته ومناهجه وعلاقته بالعلوم الأخرى ومدى استفادته منها في إنشاء فروع جديدة وتوسيع دائرته ... وتحديد المقصود بالأسس العلمية وغير العلمية لعلم ما ووسائل التعرف عليها –..... ثم مصطلح "التحيز" وسماته وأنواعه مع التركيز على التحيز المعرفي وكشف خطورته... ومصطلح "الموضوعية" والذاتية كذلك.
وتتضح أهمية الحاجة للتعرف على المقصود من هذه المفاهيم وغيرها مما يلي:-
- ورود هذه المفاهيم في سياقات غير التي تخبر بها مقاصدها لدى كتاب آخرين كأن يرد مثلاً في صفحة 245 (آخر الفقرة الثانية) وفي صفحة 274 (بداية الفقرة الثانية) ما يفيد بأن "نظرية" ما... محل "إيمان" الاقتصاديين... بينما ما درسناه أن النظريات محل اختبار دائم وليست محل إيمان ولا كفر... ومن ثم وجب أن نتعرف على مقصود الكتاب بكلمة "نظرية" في هذا السياق.... نظراً لأن معرفتي بالنظرية تنصرف إلى أنها مجموعة من المفاهيم والتعريفات والقضايا المترابطة التي تقدم صورة منسقة للظواهر عن طريق تحديد العلاقات بين المتغيرات، بهدف تفسير تلك الظواهر والتنبؤ بها. أو مجموعة من القضايا المتسقة منطقياً والقابلة للاختبار امبريقياً.... والقضايا التي تتضمنها النظرية يمكن اعتبارها قوانين علمية إذا كان قد تم التحقق منها بدرجة كافية حصلت معها على قبول واسع النطاق... أو اعتبارها فرضيات إذا لم يكن قد تم التحقق من صدقها بدرجة كافية.
- ورود بعض المصطلحات بأكثر من تعريف كالملكية الخاصة (لها تعريف ص 89 وتعريف مختلف في الفقرة الأخيرة من ص 94).
‌ب- فكرتان متناقضتان يقدم بهما أستاذنا الدكتور جلال أمين كتابه هما:-
- الأولى يتحدث فيها عن "تحيز" الاقتصاديين للعصر الذي يعيشون فيه وتغيرات لحقت بأفكارهم مع تغير الظروف الاقتصادية والتطور التكنولوجي وتغير العلاقات الطبقية.
- والثانية يتحدث فيها عن تمسكهم بمقولات معينة واعتبارها نهائية وعن سمات علم الاقتصاد التي بقيت صامدة على مر السنين... فإذا به كما يدرس اليوم يحمل أهم ملامح نشأته الأولى... كما تتحدث عن رؤية حملت سمات معينة منذ القرن الثامن عشر واستمرت تطبع علم الاقتصاد حتى اليوم بنفس الطريقة!! وعن قيود كبلت علم الاقتصاد لأكثر من ثلاثة قرون.
- الفكرة الأولى تبين أن هناك ديناميكية وتطور لدى الاقتصاديين... فهم يبحثون عن إجابات جديدة لمشكلات مجتمع مختلف يعيشون فيه... إنها عبارة توحي بانتشار روح علمية لدى هؤلاء وإذا جاز أن نسمي انشغالهم بدراسة ظروف عصرهم وتغير أرائهم بتغير هذه الظروف (التي هي المادة الخام لبحثهم)....إذا جاز أن نسمي هذا تحيزاً وهي تسمية تحتاج إلى مراجعة فهو تحيز مقبول من العلم... إذ ليس متصوراً أن ينشغل البحث العلمي في الاقتصاد بابتكار ظروف وظواهر اقتصادية أو تخيلها ثم القيام بدراستها.
- أما العبارة الثانية فتوحي بتحجر فكري لمجموعة أو "جماعة" ترتل "كتابها المقدس" المتمثل في مقولات الاقتصاديين المعتمدة جيلاً بعد جيل...!!
- فهل يمكن أن يتسق وصفان متناقضان هذا التناقض البين؟!!
‌ج- مازلت في التقديم حيث يُبَشْرُ القارئُ بالتحرر من أسر الحب الأعمى إزاء شيء غير جدير بالحب هو علم الاقتصاد.... فهل ساهم الكتاب في تحقيق هذه البشارة؟!... إذا كان قد نجح فهو كتاب في التحيز حيث يخرج المبشرين من تحيز لصالح علم الاقتصاد إلى تحيز "ضد" هذا العلم..... ويمكن أن نسمي الكتاب إذن - دون أن يمثل ذلك نقداً – "تحيزات الدكتور جلال أمين ضد علم الاقتصاد والاقتصاديين".
فإذا انتقلنا إلى الفصل الأول والثاني وهما الفصلان المفتاحيان اللذان نبحث فيهما عن وسيلة لمناقشة أفكار الكتاب والحكم عليه نجد ما يلي:-
في الفصل الأول:-
أ‌) ما يصل إليه الاقتصادي من فهم الظواهر وما يستخلصه منها من معانٍ وتعميمات أو قوانين سيكون متأثراً بأفكار ومشاعر مسبقة... ويرى الكاتب في ذلك موقفاً متحيزاً من الباحث الاقتصادي ... بينما ما تعلمته أنه ليس فقط عالم أو دارس الاقتصاد هو من يرى الأشياء ملونة ومختلطة بموروثاته وأفكاره المسبقة.. ولكن عالم الطبيعة كذلك يرى الظاهرة ملونة بأفكاره المسبقة وموروثاته... (فضلاً عن أن الفنان والروائي لا يكتفي بمجرد رؤيتها ملونة بل يضيف إليها رتوشاً جديدة)... ورؤية الظواهر ووسائل الرؤية معضلة العلم في وقتنا الحالي.... إذ.. لا يستطيع أحد دارسي علم من العلوم أن يؤكد على أن ما يصفه من ظواهر... وما يدرسه من أنساق ويحاول تفسيره هو عين هذه الظواهر... والأنساق تماماً كما هي في الواقع... وإنما يقول أنها كذلك باحتمال معين... لقد تحول العلم من المعرفة الحتمية إلى اللا يقين... وإذا كانت طبيعة الظواهر الفيزيائية قد أجلت ظهور هذه المعضلة (حتى صاغها هايزنبج في مبدأ اللا تعين والذي أفهمه بأنه تعبير عن مراوغة الظاهرة الطبيعية المدروسة وتأثرها بالباحث وبأدوات القياس) فإن الظواهر الاجتماعية مراوغة بطبيعتها ومعيقة لتطور علومها بسبب الوعي بمراوغتها.... وبسبب وعي وحداتها المدروسة بخضوعها للرصد والمراقبة فإذا بها تغير من سلوكها ربما لتضليل الراصدين!!... ومن ثم تختلف المشاهدات والنتائج وتبرز الاحتمالية منتصرة منذ البداية في العلوم الاجتماعية وملائمة لها أكثر من العلوم الطبيعية... وليس لأن الباحثين يقحمون مشاعرهم وأفكارهم من خارج الظاهرة ويقحمونها عليها فتأتي نتائج بحوثهم متأثرة بهذه الأفكار والمشاعر... لأن فعل الإقحام الواعي هنا يعد تزييفاً مقصوداً ولا يقتصر على كونه تحيزاً... فالتحيز يقع في النظر إلى الظاهرة أي في المذهب أو وجهة النظر وهو تحيز مقبول ... أما التزييف فيقع في النظر في الظاهرة أي مرحلة التفسير والتأويل ... أي في العلم وهو غير مقبول... وغالبا ما يملك العلم أدوات فاعلة لاكتشافه وفضحه.
ب‌) تناول الكاتب أربعة مصادر محتملة لتحيز الباحثين في العلوم الاجتماعية هي:-
1. المصلحة الخاصة.... (والسؤال إزاء ما ورد من أمثلة على هذا المصدر هو.... ما علاقة ذلك بالعلوم الاجتماعية أو بأي علم من العلوم؟؟ أنها تحيزات مذهبية).
2. وقوع أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية مهمة تشغل الناس (والسؤال هنا هل كان مطلوباً من كينز مثلاً أن يولي ظهره لأزمة الكساد الكبير حتى لا يكون متحيزاً... بأي معنى يمكن أن يكون الاهتمام بالظواهر الحالية تحيزاً علمياً؟؟).
3. طبيعة الموارد المتوفرة في الدولة... (والسؤال... هل كان مطلوباً من توماس الإكويني أن يعالج الظواهر الاقتصادية التي عالجها سميث بعده بخمسة قرون حتى لا يكون متحيزاً؟!.... وما مصدر التحيز العلمي في تطور مفهوم الثروة بتطور وسائل توليدها والحصول عليها؟؟!)
4. تأثر البحث العلمي بما يظهر في فروع أخرى من فروع المعرفة العلمية من تطورات مهمة،... وهو مصدر يحتاج إلى مراجعة في ضوء مفهوم التحيز حيث أن المسألة هنا تتعلق بالاستفادة من وسائل الوصول إلى الإدراك العلمي التي أنجزتها علوم أخرى... وللباحثين جهودهم في النظر في مدى ملاءمة بعض هذه الوسائل لتخصصاتهم كما يقع على عاتقهم ابتكار الوسائل المناسبة للوصول لهذا الإدراك دون أن يكون في ذلك تحيز.
- يتحدث الكاتب بعد ذلك عن مصادر أخرى للتحيز: ومنها جهل الباحثين بجانب معين من موضوع بحثهم (الجهل بالعالم النامي وتفسير نموه لدى التقليديين) وهذه العبارة عليها عدة ملاحظات أولها: أن هذه المسألة متعلقة ببنية العلم ومفهوماته وطرائقه... إذ كيف نلوم باحثاً أو نتهمه بالتحيز ضد نسق أو ظاهرة نقر بأنه لم يرها ولم يلاحظها؟.... أليست الملاحظة – على الأقل في وقت التقليديين- هي أول مراحل المنهج الاستقرائي كمنهج علمي؟! ثانياً: ألا يتناقض ذلك الاتهام مع ما ورد في الفصل الحادي عشر "التنمية الاقتصادية" بل مع كتاب "كشف الأقنعة للكاتب أيضاً" من أن تناول الباحثين الغربيين لمسألة النمو والتنمية في الدول المتخلفة كان مغرضاً ومتحيزاً وهادفاً إلى تحقيق مصالح معينة لدولهم ولمنظومة الرأسمالية العالمية؟! ..... هل كان عدم تناولهم لظاهرة النمو تحيزاً ... وكان تناولهم لها تحيزاً أيضاً؟! ثالثاً: لماذا كان مطلوباً من التقليديين أو غيرهم – حتى لا نصفهم بالتحيز - أن يدرسوا لنا ظواهرنا ويفسروا لنا سلوكنا؟!! رغم إدراكنا بتحيزهم ووعينا باختلافنا عنهم حضارياً وثقافياً ونظرة إلى الحياة؟ ألا تبرز نظرية المؤامرة بين ثنايا هذا الخطاب؟...
حتى الآن لا اتفق مع أستاذنا الدكتور جلال أمين إلا في وجود نوعٍ واحدٍ من التحيز هو التحيز المذهبي ولا أرى في كل ما عرضه نموذجا واحداً لتحيز معرفي أو علمي... وهو ما يؤكد على ما سبق ذكره من أهمية ضبط مصطلح "التحيز العلمي أو المعرفي" حتى يقف القارئ مع سيادته على أرضية واحدة.
ومن ثم ننتقل إلى استعراضه للقنوات التي تجري فيها التحيزات.... وتؤثر في نتيجة البحث العلمي... فتلونها وتعكر صفوها... وقد حددها بخمس قنوات هي:-
1. أثر التحيز في تحديد الأسئلة وهو تحيز مذهبي لم يدلل الكاتب على كيفية تأثيره في نتيجة البحث العلمي وتلوينها وتعكير صفوها.
2. أثر التحيز في نوع الإجابة (إجابة كل من كينز والكلاسيك عن محددات حجم الناتج القومي... وقول الكلاسيك بأنه العرض... بينما قال كينز بأنه الطلب... وأن كينز كان متحيزاً للأجل القصير... بينما كان الكلاسيك متحيزين للأجل الطويل)... وإذا كانت المسألة لا علاقة لها بالصحة أو الخطأ... فأنني أرى أن لا علاقة لها أيضا بالتحيز... ولا أثر للتحيز هنا في نوع الإجابة... لأن الزمن ليس عنصراً شخصياً ولا انتماءً مذهبياً وإنما هو بعد موضوعي من أبعاد الظرف الاقتصادي... وزمن الكلاسيك لم يكن هو زمن كينز ولم تكن مشكلاتهم هي مشكلاته... والأكثر أنهم لم يجمعوا على رأي في أن العرض هو المحدد لحجم الناتج القومي... ألم يعترض مالتس على قانون ساي للأسواق وكان له نظرية في فاعلية الطلب، وكلاهما كلاسيكي؟!
3. القناة الثالثة تتمثل في أن التحيزات والأفكار المسبقة تؤدي إلى اختلاف موضع التأكيد الذي يختاره الباحث.... وهي مسألة كما تكشف عنها الأمثلة الواردة في الكتاب لا علاقة لها بالتحيز.... بل علاقتها بأدوات البحث العلمي ومهارة الباحث في استخدامها وابتكار الأدوات المناسبة لدراسة الظواهر المركبة كالظواهر الاجتماعية التي لا تحتمل العوامل المؤثرة فيها أو المحددة لها عملية العزل التي يمارسها الباحث الكيميائي في معمله فمقولة "مع بقاء الأشياء الأخرى على حالها" ليست مقولة متحيزة ولكنها متعلقة بوجود أو عدم وجود الأداة العلمية التي تمكننا من افتراض عدم بقاء هذه الأشياء الأخرى كما هي لأنها لن تبقى.
4. يقر المؤلف بأن عملية التصنيف عملية أساسية في البحث العلمي بعد أن وضعها في العبارة السابقة مباشرة باعتبارها من قنوات تأثير التحيز في نتائج البحث (والسؤال كيف تتفق قضية موضوعية كعملية التصنيف مع مسألة ذاتية كالتحيز؟!)... ورغم اختلاف معايير التصنيف إلا أنه يبقى أنها معايير أي موازين أو مقاييس مقبولة لدى البحث العلمي والطعن فيها طعن في بنية البحث العلمي كما يمارس اليوم... وهو طعن مقبول ومشروع في ضوء الوعي بعدم كفاية العلم وحده بكل ما شمله من تطور لدراسة الظواهر الاجتماعية بتعقيداتها وتركيبها ومراوغتها دراسة توصل إلى إدراك معرفي صحيح بشأنها... ولكن يبقى أن الأمر لا علاقة له بالتحيز!!
5. اللغة كقناة تؤثر من خلالها التحيزات في البحث العلمي، اللغة المحملة بكلمات "أفضل" و"محموداً" و"إيجابياً" وبالتعبيرات والتشبيهات المجازية ليست هي لغة العلم... وتخبرنا كتب فلسفة العلم ومناهج البحث العلمي بأن الرياضيات هي لغة المنهج العلمي وما لا يمكن وضعه في إطار رياضي لا يمكن أن يكون علماً...(وتصبح الإشكالية هي ابتكار الرياضيات الملائمة لترييض علم من العلوم في ضوء طبيعة خاصة بهذا العلم... فقد توقف آينشتاين مثلاً عن عرض نظريته في المجال الموحد انتظاراً لتطوير رياضيات ملائمة لصياغة هذه النظرية الفيزيائية... كما كان من المستحيل ظهور نظرية النسبية دون أن تسبقها الهندسات اللاإقليدية ... كما تم ابتكار نظرية المباريات كأول نظرية رياضية غير فيزيائية صممت لتلائم العلوم الإنسانية والاجتماعية) ولا شك أن الرياضيات تتعلق بالتجريد الذي يجنب لغة العلم الوقوع في أسر التشبيهات والمحسوسات والعواطف والأهواء وهو ما يحقق إغلاق اللغة كقناة من قنوات التحيز.... غير أن ترييض العلوم الاجتماعية سوف يوقعنا في معضلة المنطق الصوري ويبعدنا عن الاتجاه الإنساني في دراسة الظواهر الاجتماعية الذي يستشف من بعض فقرات الكتاب أن استأذنا المؤلف يدعو إليه.
في الفصل الثاني:- التحيز في علم الاقتصاد:-
- يسجل الكاتب الهدف الرئيسي للكتاب وهو: تحفظ مهم يتمثل في أن ما حدث بظهور كتاب ثروة الأمم وما شهده القرن السابق عليه مباشرة من محاولات للسير في نفس الطريق لم يكن بالضبط هجراناً لمواقف غير علمية في شرح الظواهر الاقتصادية وإحلالاً "للموقف العلمي" محلها، بل كان في الحقيقة أقرب إلى إحلال نظرة غير علمية محل نظرات غير علمية بدورها... تحيزات محل تحيزات.
- يسجل الكتاب كذلك مقدمة أخرى هي:- "الاقتصاديون اليوم يحملون نفس تحيزات آدم سميث وأصحابه أثناء دراستهم أو تفكيرهم في الظواهر الاقتصادية، أو يحملون تحيزات قريبة جداً منها، بل الأرجح أن هذه التحيزات تغلغلت في أذهانهم بدرجة أعمق بكثير مما كانت عليه لدى آدم سميث وأصحابه.
- المقدمتان في غاية الخطورة وتحتاجان إلى إثبات فنحن نريد الآن أن نتعرف على ما يلي:-
1) تحيزات آدم سميث وتحيزات السابقين عليه.
2) تحيزات الاقتصاديين اليوم وعلاقتها بتحيزات سميث وإثبات تغلغلها في أذهانهم.
- قبل أن يتعرض الكتاب لهذه التحيزات يتعرض لنظام المنافسة الكاملة وشروطها وكأن هذا النظام ابتكر على يد مفكر واحد... وضع شروط المنافسة وحدد مفهومها بشكل نهائي وإلى غير رجعة... بينما تفصح كتابات الاقتصاديين أن مفهوم المنافسة شهد تطوراً متتالياً على يد كثير من الكتاب فلدى آدم سميث لم تكن تعني أكثر من حرية الدخول والخروج من السوق دون أن ينشغل بعدد المتعاملين أو تجانس السلعة أو توفر المعلومات وإنما ساهم اللاحقون كفالراس ومارشال في وضع هذه الشروط دون الوقوع في أسر تعريف آدم سميث لها أو مفهومه عنها.
والآن إلى التحيزات المزعومة:-
1. هناك ميل قوي لدى الاقتصادي إلى افتراض العقلانية أي افتراض أن الإنسان في سلوكه الاقتصادي لا يحتكم إلا إلى مقتضيات العقل... "الإنسان الاقتصادي".... والحقيقة أنني لا أعرف "هذا الاقتصادي" الذي لديه اليوم ميل قوي لافتراض العقلانية والرشد الاقتصادي فمنذ فترة طويلة هناك دراسات متتالية تناقش مبدأ العقلانية... وتعكس بعض جوانب نظرية كينز ميولاً غير عقلانية لدى المستهلكين والمنتجين وتصرفات غير مرتبطة بالرشد الاقتصادي.... كما تطور الآن فرع من فروع علم الاقتصاد هو الاقتصاد السلوكي... وحصل أستاذ بجامعة هارفارد عام 1999 على ميدالية مؤسسة الاقتصاد الأمريكية عن دراسة أسفرت عن عدم واقعية افتراض الرشد الاقتصادي... كما تنامت بحوث الاقتصاد التجريبي باستخدام نظرية المباريات ... وأجريت تجارب على نظرية المنفعة الترتيبية ومنحنيات السواء منذ عام 1931... وهناك تجارب تشمبرلين على طلبة محاضراته... كما حصل فيرنون على جائزة نوبل عام 2002 في الاقتصاد لإجرائه اختبارات معملية في الدراسات الاقتصادية...إن المفهوم السائد اليوم لدى عديد من الاقتصاديين هو "محدودية الرشد الاقتصادي"... ولدى البعض مثل "ليستر ثارو" في كتابه "الرأسمالية ضد الرأسمالية" هو تعدد مفاهيم الرشادة حيث ضرب مثلاً باليابانيين الذين يفضلون استهلاك سلع يابانية الصنع حتى لو ارتفع ثمنها بـ 25% أكثر من بدائلها المستوردة متسائلا... كيف يمكن أن تصف هذا التصرف بعدم الرشد إذا قال لك الياباني أنه على وعي بأن شراءه للسلع اليابانية هو ضمان لرفعة بلاده.... ومن ثم فإن وصم الاقتصاديين بهذا الجمود يحتاج إلى مراجعة من استأذنا.
2. الميل القوي لدى الاقتصادي إلى افتراض أن الإنسان لا تحركه إلا مصلحته الخاصة... بينما تدل الكتابات الاقتصادية منذ آدم سميث نفسه على فهم الاقتصاديين لوجود دوافع أخرى غير الأنانية تحرك السلوك الاقتصادي للأفراد... فلم يفترض سميث أن الأنانية وحدها هي محرك السلوك الاقتصادي... بل ذكر في ثروة الأمم "أن المجتمع يضع نظاما طبيعيا يتنازعه ثلاثة أزواج من الدوافع هي: - 1) حب النفس والتعاطف. 2) الرغبة في الحرية مع الإحساس بالتواؤم. 3) الميل للعمل والميل للمقايضة والتبادل".
3. وجد الاقتصادي دائما من السهل أن يفترض أن سعي المرء لتحقيق مصلحته الخاصة يؤدي دائما إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع ككل... لم يراجع الاقتصاديون وحدهم هذه المقولة وإنما اهتم علم الاجتماع بمراجعتها كذلك ولم تصبح الآن "وِرْدَاً من أوراد الصوفية يردده الاقتصاديون في الصباح والمساء" بل يفهم الاقتصاديون اليوم جيداً بأن مصالح بعض فئات المجتمع تتعارض مع مصالح فئات أخرى.
4. النظرة الميكانيكية للإنسان... وللعالم انهارت بانهيار فيزياء نيوتن... وفي علم الاقتصاد تعكس نظرية كينز 1936 وجود مستهلكين لهم ميول وعواطف... ومستثمرين يتوقعون في ظروف عدم التأكد .... وقطعان من المضاربين تحركهم الشائعات وليس الحسابات الاقتصادية... وهو ما يقوض فكرة ميكانيكية النظام الاقتصادي ووحداته... ومن ثم يحتاج القول باستمرار تمسك الاقتصاديين بأقوال محددة ونظرة خاصة للظواهر الاقتصادية من آدم سميث حتى الآن إلى مراجعة للأسباب التالية:-
- تناقض هذا القول مع أقوال أخرى أوردها الكتاب.... ففي الفصل الثالث هناك استشهاد برأي الاقتصادي جون كينيث جالبريت ورأي الاقتصادي أمارتيا سن يبرزان رؤى للظواهر الاقتصادية تختلف عن رؤية آدم سميث وتتعارض مع رؤى الأقدمين من الكلاسيك والنيو كلاسيك.
- وقوف الكتاب في فصل السكان عند عرض نظرية مالتس والادعاء بسيادتها لمدة تزيد على قرنين من الزمان... بينما تطور فرع جديد للدراسات السكانية يسمى "اقتصاديات الموارد البشرية" تدرس فيه نظريات عديدة تالية لنظرية مالتس في السكان.
- اقتصار فصل الاستهلاك على عرض نظرية المنفعة الحدية مع علم الكاتب بوجود نظريات لاحقة... وبتعرض مبدأ النفعية لانتقادات متلاحقة من علماء الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس... كما أن انتقال علم الاقتصاد للاهتمام بظاهرة الاستهلاك على المستوى الكلي تضمن الإشارة إلى مستهلكين من لحم ودم تحكم تصرفاتهم عوامل شخصية وليس عوامل موضوعية فقط وتخضع سلوكياتهم للأهواء والتباهي والمحاكاة بجانب حساباتهم الاقتصادية.
- الخلط في فصل الإنتاج بين نظرية الإنتاج على المستوى الجزئي وبين الناتج القوي وما يدخل فيه من أنشطة وما لا يدخل... فعلى المستوى الجزئي لا تنكر نظرية الإنتاج على نشاط معين كونه نشاطاً إنتاجياً أم لا فهي تدرس سلوك المنتج الفرد دون أن تمنع بعض الأنشطة وتسمح لأخرى بأن تكون منتجة... ألا يمكن لأي دارس اقتصادي باستخدام أدوات نظرية الإنتاج على المستوى الجزئي أن يدرس سلوك المنتج الصناعي (المنشأة الصناعية) والصناعة بأكملها والمنشأة الزراعية أو التجارية وكذلك سلوك الموسيقي الذي يعزف لمتعته الشخصية أو حتى سلوك ربة المنزل وهي تمارس أعمالها، باعتبار ما يقومان به نشاطاً إنتاجياً؟... المشكلة أن الحسابات القومية (وهي تقع في إطار دراسة الإنتاج الناتج على المستوى الكلي) لا تدخل كثير من النشاطات التي قد تكون منتجة ضمن حسابات الناتج القوي لعدم وجود طريقة دقيقة لتقديرها... وهي مشكلة قد تتسبب في إهمال نشاطات أكبر بكثير وأخطر من الأنشطة التي يضرب بها الكاتب أمثلة في الكتاب، فإذا كان عدم إدراج نشاط ربة المنزل في منزلها والموسيقيين الهواة وأولئك الذين يقضون أياماً مرحة على الشواطئ يلفت نظر أستاذنا فإن تجارة كثيرة مهربة وصناعات تتم "تحت السلم" ومخدرات ودعارة واقتصاد كامل خفي لا يمكن رصده ولا تقديره ضمن الناتج القومي وهو يمثل من حيث القيمة المادية أضعاف أضعاف ما يمثله نشاط المرأة في بيتها (الذي يقر الكاتب في موضع آخر من الكتاب أنه تراجع في المجتمعات الحديثة لصالح الأنشطة السوقية فالمرأة تعمل خارج المنزل ثم تطلب الأكل جاهزاً من محلات الوجبات السريعة وتستأجر من ينظف المنزل وتدفع بالملابس لمن ينظفها ويكويها...ألخ) أو ما يمثله نشاطات الهواة من الموسيقيين والمطربين!!.. ورغم تلك المشكلة فإنها لا تخص علم الاقتصاد ولا هي ناشئة عن تحيزات للاقتصاديين، وإنما تخص تنظيمات اجتماعية وقواعد تنظيمية ودينية وقانونية.
بناء على كل ما تقدم فإنني لا أستطيع أن أرى فيما قدمه الكتاب أدلة كافية أو حتى مناسبة لإثبات تحيز الاقتصاديين لمقولات تم صكها منذ آدم سميث.... أو جمود علم الاقتصاد عند نظرية المنفعة الحدية لسلوك المستهلك ونظرية مالتس في السكان ونظرية النفقات النسبية في التجارة الدولية لريكاردو.....وليس هذا تحيزاً لصالح علم الاقتصاد بل إقرار بأنه كغيره من العلوم ربما قام في بدايته على أسس غير علمية وربما تلحق به الآن مقولات غير علمية وربما وقع بعض باحثيه في شرك التحيز..... ولكنه كغيره من العلوم أيضاً يصحح مساره ويعيد اختبار مقولاته ونظرياته مرة بعد أخرى ويكشف النتائج المزيفة لبعض البحوث...وشكراً،

الاثنين، 5 أبريل 2010

نمذجة الأنساق - عرض تقديمي للفقرة الرابعة (ص ص: 19 – 28) من الفصل الأول من كتاب:

عرض تقديمي للفقرة الرابعة (ص ص: 19 – 28) من الفصل الأول من كتاب:
Systems Optimization Methodology

إعداد
عبد الغني عبده عبد الغني

نمذجة الأنساق
تتصدى هذه الفقرة للإجابة على عدد من الأسئلة المهمة تتعلق بمفهوم النمذجة، والعلاقة بين النموذج والنسق، وخطوات عملية النمذجة، وأسباب اللجوء للنمذجة، وأنواع النماذج مع توضيح أهمية النماذج الرياضية، ويمكن عرض الإجابات على هذه الأسئلة فيما يلي:
(1) ما المقصود بالنمذجة؟
يميز الكاتب بين مفهومين لمصطلح النمذجة:
أولاً: المعنى الواسع للكلمة النمذجة حيث تعكس سمة عامة لعملية الإدراك، وفي هذه الحالة يتكون النموذج من نظريات ومقولات علمية ورؤى فكرية.
ثانياً: النمذجة في مفهومها الضيق تمثل طريقة معينة للإدراك العلمي، وذلك عندما يكون هدف البحث هو استبدال نسق معين بنسق آخر في صورة نموذج.
(2) ما العلاقة بين النموذج والنسق؟
• يتراوح تشابه النموذج مع نسقه الأصلي بين التشابه المطلق وبين القطيعة في الشبه.
• في حالة التشابه المطلق بين النموذج والنسق، فإننا لا نتعامل مع نمذجة وإنما نتعامل أنساق بعينها متطابقة.
• مثل هذا الضرب من التشابه المطلق بين النموذج والنسق يحدث مثلا في هندسة خطوط الإنتاج وعملية التصنيع ومجالات أخرى.
• عندما يحدث الانقطاع أو عدم التشابه المطلق بين النموذج والنسق، فإننا نتعامل مع أنساق مختلفة لا يكرر أحدها الآخر.
• يسود التشابه الكامل شريطة أن تتطابق المعلمات الأساسية في النسق الأصلي وتلك المعلمات الموجودة في النموذج، والاختلافات بين النموذج والنسق في هذه الحالة يمكن إرجاعها إلي خصائص نوعية بسيطة يمكن إهمالها، ومن وجهة نظر الإدراك، فإن النموذج من هذا النوع، إذا كان ممكناً أن نسميه نموذجاً، لا أهمية له.
• النموذج يمكن أن يعكس فقط بعض ملامح أو معلمات النسق الأصلي وهذا يبين التشابه الناقص.
• في هذه الحالة فان المعلمات الأخرى للنسق الأصلي والنموذج ربما لا تتطابق.
• رغم ذلك فإن اختلاف المعلمات لا يعني عدم تطابق النتيجة النهائية لتشغيل النسق الأصلي والنتيجة المشتقة من النموذج.
• عندما يتم تبسيط النموذج بشكل كبير جدا كمقابل للنسق الأصلي، فإن الاستدلالات الجزئية النظرية للنموذج تتساوى مع ملامح أساسية للنسق الأصلي، وهذا التشابه يسمى تشابه تقريبي.
• في هذه الحالة، فان طائفة من النماذج غالبا تكون متطورة جدا، وكل منها يعكس معلمات معينة في الأنساق الأصلية، وكل هذه النماذج مجتمعة تنتج معرفة أكثر دقة بالأنساق.
• التشابه الهيكلي تعكس فيه النماذج ملامح الأنساق الأصلية التي يمكن أن يعبر عنها كميا، ويسمى تشابها سبرنطيقيا أو منطقيا.
• كما يمكن أن يظهر التشابه الهيكلي بين النموذج والنسق الأصلي في مجالات استاتيكية: منظمة داخلية، منشأة وعلاقات بين عناصر أو مكونات.
• بينما التشابه الوظيفي يكون ديناميكيا بين النماذج والأنساق.
• النمذجة الرياضية (السبرنطيقية- المنطقية) ممكنة لفحص أنساق اجتماعية، اقتصادية، حيوية، نفسية، وغيرها من الأنساق.
• عندما يعيد النموذج إنتاج الأنساق الأصلية في صورة مبسطة، فانه يحدث شيئا متكاملا، حيث يعرض النموذج ببساطة وعمومية واتساق وترتيب ملائم ومنظم من العناصر التي تقابل شروط وهيكل النسق الأصلي.
• النمذجة عملية مستمرة من التطوير المتعاقب لسلسلة من النماذج تتغير باستمرار لتقرب أكثر وأكثر بين النموذج والنسق الأصلي.
• مثل هذه العملية من تطوير النماذج تشكل مظهر مادي لتطور الإدراك من النسبية إلي الحقيقة المطلقة.

(3) ما هي خطوات عملية النمذجة؟
• في أغلب الحالات تبدأ عملية النمذجة بوصف النسق. والوصف الأولي يمكن أن يكون عموميا لا تفصيليا وهو ليس أساسي دائما.
• بعد ذلك يتحول الوصف الأولي إلي وصف رمزي منطقي يُمَكّْن الباحث من اكتساب بصيرة أعمق بالنسق، من حيث تركيبه وعلاقات عناصره، وفي هذه المرحلة يتم ما يلي:-
1. تعريف القيود، (القيود الخارجية هي الوقت مثلاً القيود الداخلية هي العمل والمواد الخام ومصادر التمويل).
2. عرض الوسائل اللازمة لإنجاز الأهداف ومعايير كفاءة تشغيل النسق فيما يتعلق بالأهداف المحددة.
3. كشف وتعريف عوامل البيئة الخارجية التي تؤثر علي الأهداف والوسائل والفروض والمعايير.
4. تقييم العلاقة بين الأهداف والفروض والقيود الخارجية التي تشكل كفاءة مشكلة النسق.
• النمذجة يمكن أن تعتبر عملية تطوير متتالي للمعادلات والمعلومات وصياغات النماذج الفرعية.
• في عملية تطوير النموذج الفرعي الوظيفي نستخدم المقارنة بين البيانات والخبرة المتاحة ونصيغ المعادلات الوظيفية التي تصف خصائص معينة في النسق.
• تتسع هنا مجموعة الصياغات بشكل تدريجي بسبب جهود الباحثين المتتالية .
• تعمل العلاقات الرياضية كأساس لصياغة الأهداف وذلك بتحسين المعايير، ودمج الفروض.
• في التحليل النهائي، يكون الوصف الأولي مهم في بداية عملية النمذجة ويكتسب هذا الوصف بشكل تدريجي شكل رياضي تام.
• يجد النموذج المنبثق من النسق الأصلي انعكاسه في النموذج المعلوماتي الذي يعد ضروريا لتطوير النموذج الفرعي المعلوماتي.
• التقديرات الأخيرة في الحساب هي درجة الشك المتأصلة في النسق أو مشكلة النسق بالإضافة إلي مستوى معرفتنا به ونقص المعلومات عن النسق الأصلي وطرق الحصول علي بيانات إضافية.
• تكمن أهمية النظام المعلوماتي في تحديد كيف أن عوامل الالتباس (عدم اليقين) تؤثر علي كفاءة حل النموذج.
• تتضمن المرحلة التالية لعملية النمذجة تطوير النموذج الفرعي البحت الذي يصف التركيب الداخلي للنسق أو مشكلة النسق، بما في ذلك تحديد الأنساق الفرعية أو المشاكل الفرعية وتصميم العلاقة بينها.
• تفترض مثل هذه المرحلة من النمذجة تحديد المعادلات المستقلة ذاتياً في النموذج الفرعي المعلوماتي والأنساق الفرعية والمشاكل الفرعية وتقدير عدم اليقين في المشاكل الفرعية وتطوير النموذج المعلوماتي البحت، وعزل المشاكل الأولية في كل مشكلة فرعية، وتنظيم النماذج.
• تتوج عملية تطوير النموذج البحت بإعادة تمثيل الهيكل الأصلي للنسق وتوزيع المعادلات بين العوامل وتصنيف العلاقات ووصف ديناميكية عمل العناصر والنسق بالكامل.
• وفي النهاية نحصل على نموذج بحت محسن يتطابق مع النماذج الفرعية الوظيفية والمعلوماتية شاملاً مستوى من المعرفة والوسائل الرياضية والتقنية التي تجعله مقبولاً.
• عملية النمذجة يمكن أن تشمل مراحل أخرى تأخذ في الحسبان المداخل الأخرى للأهداف.
(4) لماذا يتم اللجوء للنمذجة؟
• يحتاج الباحث إلى نموذج عندما تنتفي إمكانية دراسة نسق حقيقي مباشرة، وهو ما يمكن أن يحدث عندما لا يتاح النسق للفحص المباشر إما لأنه ضخم أو لأنه بعيد أو بسبب درجات حرارة مرتفعة أو منخفضة جداً أو بسبب ضغوط وخصائص أخرى متأصلة في النسق وتمثل خطراً على صحة الباحث وحياته.
• أحياناً يتضمن الفحص المباشر للنسق انتهاكاً لوظائفه وقد يؤدى إلى تدميره.
• كما قد يصادف الباحث صعوبات في عزل الوظائف والمميزات والخصائص ذات الأهمية، وفي مثل هذه الحالات يتم فحص النسق بواسطة النمذجة.
• يجب ملاحظة أن النمذجة تُمَكّْن من دراسة أنساق غير موجودة حالياً (مستقبلية مثلاً) وهو ما يسمح بتقدير نتائج القرارات المتخذة لإيجاد مثل هذه الأنساق متضمنة الفروض الأساسية للنسق الأصلي.
• عندما نصل إلى مرحلة الفحص في عملية النمذجة يمكن تمييز نوعين من عمليات النماذج الوظيفية وهي عمليات المحاكاة والعمليات الترتيبية.
• في عمليات المحاكاة يتم محاكاة ديناميكية النسق الأصلي واختبار خصائص وملامح جديدة في النموذج وفقاً لفروض المحاكاة.
• أما العمليات الترتيبية فمعنية باحتمالية الفروض التي تتخذ القرارات وفقاً لها وبالمقارنة المتاحة مع المصادر المتوفرة.
• والباحث هنا لدية فرصة مقارنة بدائل القرار ووصف المعايير وهو ما يمكنه من اختيار القرارات الأكثر مناسبة وفقاً للشروط المفروضة.
• نمذجة الأنساق الاجتماعية/ الاقتصادية تعطي الفرصة لتقدير نتائج القرارات المخططة قبل تحققها على أرض الواقع. الأمر الذي يُمَكّْن من التنبؤ بالأخطار السلبية وإزالة الأخطاء المحتملة في التخطيط والإدارة.
• وكنتيجة لذلك، تتضمن النمذجة إمكانية حساب الأسعار الرشيدة ومعايير الربحية ومعايير الكفاءة وغيرها من العوامل والخصائص الاجتماعية/ الاقتصادية.
• تفترض النمذجة أساساً وجود سلوك مثالي في الأنساق المركبة مثل النسق الاجتماعي الاقتصادي.
• الفرص المحدودة للإدراك الإنساني واتصاف معرفته بالنسبية في كل فترة من فترات تاريخه، تحددان ماهية النسق الكلي نفسه عند المراحل المختلفة من دراسته.
• النماذج تعيد إنتاج النسق الأصلي، ومع ذلك فإن تطوير النماذج يؤدي باستمرار إلى إدخال عملية إعادة الإنتاج للنسق الكامل بصورة متزايدة وكافية.
• درجة التطابق بين النموذج والنسق الأصلي وطبيعة النمذجة نفسها تتحدد بما يلي:-
1. الحالة العامة من المعرفة العلمية المعطاة مع كل دراسة.
2. مستوى التقنية المطبقة.
3. درجة سعة الإطلاع الخاصة والعامة للباحث وبعض العوامل الأخرى.
(5) ما هي أنواع النماذج:-
• تظهر الخبرة في عملية النمذجة أن النماذج يمكن أن تكون مختلفة.
• يمكن أن تكون النماذج مادية تشمل عناصر ومكونات حقيقية أو نماذج فكرية معرفية تشمل أشكال عقلية مختلفة (منطقية، رياضية، ورمزية).
• النماذج المادية غالباً متشابهة جداً وتعكس فقط بعض سمات النسق الأصلي وتبسط هذا النسق إلى حد كبير.
• أما النماذج المعرفية الفكرية فإنها ليست ذات طبيعة واحدة، الأمر الذي يمكن من مناقشة تفرد العلاقة بين النموذج والنسق الأصلي.
• مع تطور العلم والمعرفة بالأنساق تصبح النمذجة المعرفية الفكرية والرمزية والمنطقية الرياضية أكثر أهمية الأمر الذي يعكس واحدة من أهم مميزات العلم الحديث.
• يمكن أن نميز بين النماذج طبقاً للزمن فهناك نماذج الحالة الحاضرة للنسق ونماذج الحالة الممكنة ونماذج الحالة المتوقعة.
• نماذج الحالة الحاضرة متطورة بحيث تمكن من فحص الخلفية التاريخية للنسق وحالته الحاضرة، وأخذ هذه العوامل مجتمعة تمكننا من كشف ميول واتجاهات تطور النسق زمنياً.
• نموذج الحالة الممكنة للنسق الأصلي تتأسس على فحص الحالة الحالية لكشف ميول حركة النسق من الحاضر إلى المستقبل وتحدد النتيجة التي سوف تذهب إليها هذه الميول عبر فترة من الزمن.
• الفائدة المتحصلة من هذا النوع المميز من النماذج هي بيان أنه كلما كبرت الفترة الزمنية كلما انحرفت الميول عن منزلتها الحالية، وتغايرت ميول واتجاهات النسق أكثر وأكثر.
• نماذج الحالة المطلوبة للنسق الأصلي مصممة على أساس الهدف الذي سينجز في المستقبل المنظور.
• مثل هذه النماذج مصنفة أيضا (مثالي، معياري...الخ) وتأخذ في الحسبان القوى الكامنة وتلك التي يجب أن يمتلكها النسق.
• يمكن التفرقة بين النماذج وفقاً للتطبيق الإجرائي واللغة التي يصاغ بها النموذج.
• فمن ضمن هذه التصنيفات هناك نماذج كتبت بلغة رياضية وهناك نماذج صيغت باللغة العادية.
• وفقاً للفروض الحديثة تطوع النماذج الأخيرة للصياغات التالية: لغوية وتكافلية، نظرية مشتركة، جبرية مجردة، طبوغرافية ومنطقية رياضية.... الخ.
• يخرج النموذج كمحاكاة للنسق الأصلي في صورة رموز.
(6) ما هي أهمية النماذج الرياضية ومجالات عملها والاعتراض عليها؟
• تحتل النماذج الرياضية مكانة خاصة ضمن صياغات النماذج.
• التشاكل في بعض الخصائص الكمية للأنساق – بصرف النظر عن طبيعتها المادية– يمكننا من استخدام الوسائل الرياضية الحديثة (وبخاصة نظرية المجموعات ونظرية الفئات ونظرية الاحتمالات والمنطق الرياضي والعديد من النظريات الأخرى) لاختبار الأنساق المتشاكلة نفسها.
• النماذج الرياضية للأنساق الاجتماعية تختلف إلى حد كبير عن نماذج الأنساق الفيزيائية والتقنية والكيميائية وغيرها من الأنساق.
• مضمون الرياضيات كعلم يمكن أن يعرف باعتباره نسق شكلي كما يمكن أن يعرف باعتباره النماذج الرمزية للعالم الموضوعي.
• لذلك تُضَمَّن التطبيقات الرياضية في وصف الظواهر المختلفة في اللغة الاصطلاحية بالإضافة إلى استعمال الوسائل الرياضية كأفضل تدخل في عمل الظواهر الحالية، والتخطيط لاتخاذ الإجراءات المناسبة ولتوقع مسالك الظواهر.
• الاعتراضات على التطبيقات الرياضية محدودة وتشمل التطبيق العملي للنمذجة الرياضية لظواهر وأنساق العالم الحقيقي.
• الاعتراض الرئيسي على هذا النوع ينطبق على المشكلة المهمة لقابلية بعض فروع المعرفة للنمذجة، فبعض فروع المعرفة قد يكون مناسباً بما فيه الكفاية للنمذجة وينتج عن نمذجته حقائق علمية جديدة، والبعض الآخر لا.
• ومن الادعاءات أن الرياضيات لا تستطيع أن تكون قادرة أبداً على نمذجة ظواهر ذات مواصفات مركبة كظواهر علم الأحياء.
• غير أن هذا الادعاء يمكن أن يكون صحيحاً فقط في تلك الرياضيات التي ابتكرت كوسيلة لنمذجة ظواهر وأنساق حقيقية، بينما هذه الوسيلة الرياضية لم تتطور لنمذجة الأنساق والظواهر الأخرى الأكثر تعقيداً كعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع ومجالات علمية أخرى.
• المخرج من هذه المشكلة يكمن في تطوير وسائل رياضية مناسبة أكثر لنمذجة الأنساق والظواهر التي يتعذر جبرها إلى ظواهر فيزيقية.
• يجب أن تؤخذ نظرية المباريات بعين الاعتبار كأول نظرية رياضية غير فيزيائية المنشأ، ومستخدمة في علم الأحياء والعلوم الاجتماعية لتسهيل ترييض هذه العلوم، وقد ساهم عدد من المؤلفين في إنضاج هذه العلوم وإدخال الوسيلة الرياضية في موضوعها.
• الاعتراض الآخر والذي أبداه: K. Hedel's يتمثل في أن الغالبية الساحقة من اتجاهات الرياضيات الحديثة لها أصول فيزيائية، فالوسيلة الرياضية ابتكرت لوصف ظواهر مختلفة تتعلق بانتقال الأجسام الفيزيائية في الفضاء الفيزيائي. أي أن الأصل الفيزيائي للوسيلة الرياضية يحدد تطبيقاتها في مجالات المعرفة حيث الظواهر المدروسة عموما لا تخضع لقوانين الفيزياء كما قد يحدث مع ظواهر أخرى.
• لذلك فإن العلوم غير الفيزيائية يمكن أن يتم ترييضها بالكامل من خلال ابتكار الرياضيات الخاصة بها، كأداة رياضية مستقلة بما فيه الكفاية.
• هذه الرياضيات لا يمكن ولا يجب، طبعاً، أن تكون جديدة بالكامل أو منقطعة الصلة بالرياضيات التقليدية وطرقها. كما أن ابتكار هذه الأداة الرياضية الجديدة من شأنه إبراز فروع جديدة من المعرفة الرياضية، ومن ثم يجب أن نستخدم العديد من إنجازات القسم الكلاسيكي للرياضيات حيث أن دراسة ظواهر فيزيائية بسيطة ضروري لدراسة الظواهر الاجتماعية والأحيائية المعقدة. أو أن العلوم البيولوجية والاجتماعية يمكن أن تستخدم النظريات الفيزيائية في تطبيقاتها.
• نظرية المباريات عبارة عن نظرية نماذج القرار الأمثل في الصراعات.
• عدد من العلوم معني بشكل خاص بالصراعات ومنها القانون وفن الحرب والعديد من فروع علم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والأخلاق والقائمة يمكن أن تشمل الطب وبعض فروع علم الأحياء. النماذج الشكلية عالجت التطور الرياضي لبعض فروع هذه العلوم وتمثل النماذج وسيلة تطبيقية لنظرية المباريات.
• النمذجة الرياضية لعلم الأحياء والأنساق الاجتماعية تتضمن بالضرورة اختبار مفهوم السلوك الأمثل.
• هناك اعتقاد راسخ بأن نظرية المباريات سوف تعرف – عبر الزمن – باعتبارها العلم الرياضي لمبادئ الأمثلية المختلفة وعلاقاتها.
• ضمن العديد من أشكال الأمثلية التي فحصت بواسطة نظرية المباريات، يمكن مناقشة ثلاثة من هذه الأشكال وهى: الكفاءة والاستقرار والفعالية.
• هذه الأشكال من الأمثلية لها الكثير من المميزات.
• فيما يتعلق بالكفاءة، فإن المشاركين في أي صراع يجب أن يتصرفوا بطريقة تعظم مكاسبهم، فيجب أن يحاولوا الوصول لحالات يكون أي انحراف عنها متضمناً نقصاناً في مكاسبهم التي حصدوها. كما يمكن أن يفهم مصطلح الكفاءة باعتباره المسعى الذي يتبارى فيه المشاركون في الصراع لتدنية خسائرهم.
• أما مصطلح الاستقرار فيمكن فهمه – وفقاً لنظرية المباريات – باعتباره عدم اهتمام المشاركين في الصراع بانتهاك حالة التوازن.
• ومصطلح الفعالية كشكل من أشكال تحقيق الأمثلية يمكن أن يترجم كشروط متناغمة في إدارة الصراع.
• الأداة الرياضية الحديثة المتمثلة في "نظرية المباريات" غير قادرة على نمذجة حدس الناس ومشاعرهم وقدراتهم الإبداعية.
• هذا القصور في الأداة الرياضية يمكن معالجته من خلال النمذجة الإرشادية، حيث يتم تطوير برامج لحل المشاكل بصورة مشابهة بعض الشيء للطرق المستخدمة في الفكر الإنساني.
• والوصف المباشر للنسق الأصلي الذي يشابه بين النموذج وهذا النسق يمكن أن يوجد في نماذج المحاكاة (أي تقليد الوظائف والمميزات الموجودة في النسق الأصلي) سواء بالميكنة أو الحاسبات.

الأربعاء، 31 مارس 2010

محاولة لقراءة الفكر الاقتصاي لابن خلدون من خلال مقدمته



محاولة لقراءة الفكر الاقتصادي لابن خلدون
من خلال مقدمته

إعداد
عبد الغني عبده عبد الغني
***
أولاً: تعريف بابن خلدون:
ولد "ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي" بتونس في غرة رمضان 732هـ الموافق 27 من مايو 1332م، ونشأ في بيت علم، فحفظ القرآن في وقت مبكر من طفولته، وكان أبوه هو معلمه الأول، كما درس على مشاهير علماء عصره، من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى تونس بعدما ألم بها من الحوادث، فدرس القراءات وعلوم التفسير والحديث والفقه المالكي، والأصول والتوحيد، كما درس علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، ودرس كذلك علوم المنطق والفلسفة والطبيعية والرياضيات. وقد قضى وباء الطاعون الذي انتشر عام 749هـ - 1348م في معظم أنحاء العالم على أبويه كما قضى على كثير من شيوخه، فاتجه إلى الوظائف العامة والتحق بوظيفة كتابية في بلاط بني مرين، وعينه السلطان "أبو عنان" ـ ملك المغرب الأقصى ـ عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأتيح له أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء الذين نزحوا إليها من "تونس" و"الأندلس" و"بلاد المغرب". ولكن سرعان ما انقلبت الأحوال بابن خلدون حينما بلغ السلطان "أبو عنان" أن "ابن خلدون" قد اتصل بأبي عبد الله محمد الحفصي ـ أمير "بجاية" المخلوع ـ وأنه دبر معه مؤامرة لاسترداد ملكه، فسجنه أبو عنان، وظل "ابن خلدون" في سجنه نحو عامين حتى توفي. ولما آل السلطان إلى "أبي سالم أبي الحسن" صار "ابن خلدون" ذا حظوة في ديوانه، فولاه كتابة سره والترسيل عنه، وظل في تلك الوظيفة لمدة عامين حتى ولاه السلطان "أبو سالم" خطة المظالم. ولما ثار رجال الدولة على السلطان أبي سالم، وولوا مكانه أخاه "تاشفين" بادر "ابن خلدون" إلى الانضمام إليه، فأقره على وظائفه وزاد له في رواتبه، لكنه سافر إلى "غرناطة" بالأندلس في أوائل سنة [764هـ- 1362م] حيث لقي حفاوة السلطان "محمد بن يوسف بن الأحمر"، وكلفه بالسفارة بينه وبين ملك قشتالة لعقد الصلح بينهما، وقد أدى ابن خلدون مهمته بنجاح كبير، فكافأه السلطان على حسن سفارته بإقطاعه أرضًا كبيرة، ومنحه كثيرًا من الأموال، ولكن لاحقته وشايات فغادر الأندلس إلى "بجاية" فوصلها منتصف عام [ 766هـ - 1365م]، وظل بها حتى اجتاحها "أبو العباس أحمد" ـ صاحب "قسطنطينة" ـ واستولى عليها، فأقر "ابن خلدون" في منصب الحجابة حينا، ثم لم يلبث أن عزله منها فعرض عليه الأمير "أبو حَمُّو" ـ سلطان "تلمسان" ـ أن يوليه الحجابة على أن يساعده في الاستيلاء على "بجاية"؛ ولكن ابن خلدون اعتذر عن قبول الوظيفة، ولما انتهت الأمور بهزيمة "أبي حمو" وفراره عاد "ابن خلدون" إلى الفرار من جديد بعد أن صار مطاردًا من كل حلفائه. فترك أسرته بفاس ورحل إلى الأندلس من جديد، فنزل في ضيافة سلطانها "ابن الأحمر" حينًا، ثم عاد إلى "المغرب" مرة أخرى، وقد عقد العزم على أن يترك شئون السياسة، ويتفرغ للقراءة والتصنيف. واتجه بأسرته إلى أصدقائه من "بني عريف"، فأنزلوه في "قلعة ابن سلامة" ـ بمقاطعة ـ"وهران" بالجزائر ـ وقضى بها نحو أربعة أعوام تمكن خلالها من تصنيف كتابه المعروف "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، والذي صدره بمقدمته الشهيرة التي تناولت شئون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد فرغ من تأليفه وهو في نحو الخامسة والأربعين. ثم عاد إلى مسقط رأسه، وظل عاكفًا على البحث والدراسة حتى أتم تنقيح كتابه وتهذيبه، ثم عزم الحج فوصل إلى الإسكندرية في غرة شوال 784هـ - 8 من ديسمبر 1382م، وقد فقد زوجته، وأولاده وأمواله حينما غرقت بهم السفينة التي أقلتهم من "تونس" إلى "مصر" بالقرب من"الإسكندرية" التي أقام بها شهرًا ليستعد لرحلة السفر إلى "مكة"، ثم قصد ـ بعد ذلك ـ إلى "القاهرة" فبهرته، وعينه "الظاهر برقوق" لتدريس الفقه المالكي بمدرسة القمصية، كما ولاه منصب قاضي قضاة المالكية، لكنه ترك القضاء سنة [ 787هـ= 1385م] بعد عام واحد من ولايته له، وما لبث السلطان أن عينه لتعليم الفقه المالكي بالمدرسة "الظاهرية البرقوقية" بعد افتتاحها سنة [ 788هـ= 1386م] ثم ما لبث أن عزله. وحينما داهمت جيوش تيمور لنك الشام واستولى على "حلب"، ذهب لمقابلته. وعندما عاد "ابن خلدون" إلى "مصر" سعى لاسترداد منصب قاضي القضاة، حتى نجح في مسعاه، ثم عزل منه بعد عام في [ رجب 804هـ= فبراير 1402م]، ولكنه عاد ليتولاه مرة أخرى في [ ذي الحجة 804هـ= يناير 1402م] انتهت بوفاته في [ 26 من رمضان 808هـ= 16 من مارس 1405م] عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا. وترك وراءه كتابين هما:
1. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الشهير بتاريخ ابن خلدون. وأوله كتاب مقدمة ابن خلدون ثم باقي المصنف في ستة أجزاء.
2. التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا.
ثانياً: إشكاليات حول الفكر الاقتصادي لابن خلدون:
يواجه من يتصدى لمحاولة قراءة النص الذي تركه ابن خلدون محتوياً على موضوعات متصلة بالمسائل الاقتصادية، والمتمثل في "مقدمة ابن خلدون"، نوعان من الإشكاليات، أولهما له علاقة بابن خلدون نفسه "المفكر" والثاني متعلق بالنص المحتوي على "الفكر" أو "الأفكار" الاقتصادية.
أ‌) ابن خلدون في نظر المهتمين بدراسته:
تباينت آراء الذين تصدوا لدراسة ابن خلدون تبايناً شاسعاً، فرفعه كثيرون إلى أعلى درجات العلم والمعرفة بينما سفل به آخرون إلى دركات اللصوصية والسرقة العلمية التي تعد أحط أنواع السرقات[1]، والذي وقع من هؤلاء في وسط هذه التباينات هوَّن من أثره فيمن تبعه من أفكار ومفكرين في الشرق والغرب، فقد قرأت للدكتور حسن صعب[2] يقول: عاش "ابن خلدون" فترة انفراط الخلافة وتعاقب الدول والإمارات الواحدة بعد الأخرى، وابتعد الحكام عن روح الشرع ومبادئه... ظهر بعد أن هدأت حركة ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية، ولم تكتشفه أوربا حتى القرن التاسع عشر حينما ترجم "دي ساسي" مقتطفات من المقدمة سنة 1806. كما غفل عنه الشرق العربي حتى نهاية القرن التاسع عشر.
ب‌) مقدمة ابن خلدون وإشكاليات دراستها:
اجمع كل من درس مقدمة ابن خلدون - سواء منهم من نسبها له ومن ذهب إلى أنه اقتبسها- على أنها "نص علمي عبقري"، ولكنهم عادوا يتنازعون النص في بينهم وفق تخصص كل منهم، فيرى المؤرخون أنها تدخل في علم أصول كتابة التاريخ، ويرى علماء الاجتماع أنها تؤسس لعلمهم، كما قرأ فيها الاقتصاديون نظريات وجدها بعضهم مطابقة تماماً لما ورد في كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث، وربما حوت من الأفكار ما تجاوزه. كما رأى فيها المتخصصون في العلوم السياسية نصاً سياسياً، ونظر إليها الفلاسفة على أنها نص في فلسفة التاريخ، وكتب البعض أنها كشفت عن قوانين الحتمية التاريخية والمادية التاريخية أيضاً، رغم أنها عنونت الفصل الحادي والثلاثون: في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها!!،. كل ذلك رغم أن (أو ربما لأن) كاتب النص يقول: فأنشأت في التاريخ كتابا، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار، وملئوا أكناف النواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سلف من الملوك والأنصار، وهم العرب والبربر. فهذبت مناحيه تهذيبا، وقربته لإفهام العلماء والخاصة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛ حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك. فالكاتب يحدد في بداية الفقرة أن كتابه في التاريخ، غير أن فهمه للتاريخ جعله يسلك في كتابته مسلكاً غريباً ومذهباًً عجيباً وطريقة مبتدعة فأدخل فيه الحديث عن العمران والتمدن، ولعل الأجزاء الخاصة بالعمران والتمدن هي أكثر الأجزاء تنازعاً بين العلوم الاجتماعية الحديثة (الاجتماع – السياسة – الاقتصاد)!!
التحدي الآخر الذي يواجه من يحاول قراءة ابن خلدون هو المعاني التي قد تحتملها نصوصها، فالتطور الذي لحق اللغة العربية - كغيرها من اللغات – يحتم على من يتصدى لقراءة نص كتب منذ أكثر من ستمائة سنة ليس فقط الكشف عن معاني بعض الكلمات في المعاجم ولكن التعرف على ما قصده الكاتب من هذه النصوص وما كانت تحمله من معاني إبان كتابتها، واكتفي هنا بكلمة "مصانع" وهي كلمة وردت كثيراً في المقدمة وفي كتاب تاريخ ابن خلدون كله، كما وردت في القرآن الكريم أيضاً، ومعناها في القرآن الكريم مختلف كثيراً عن معناها المعاصر، فقد عرفها المفسرون من الصحابة على أنها القصور والمدائن[3]!!! والعرب تسمى القرية والقصر: مصنعة. ويقولون: هو من أهل المصانع يعنون القرى والحضر. وقال لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
فهل هي بذات المعنى في مقدمة ابن خلدون أم أنها لديه تحمل معناها الذي نعرفه اليوم؟ وهل شهد عصر ابن خلدون المصانع التي يعرفها عصرنا الحالي؟ أن هذا التحدي يفرض أن يتصدى علماء اللغويات ودارسي التطور الذي لحق بمفردات اللغة العربية ومعانيها لصياغة المفردات المذكورة في المقدمة وفق ما قصدها الكاتب ووفق ما فهمها معاصريه. الأمر الذي يسهل مهمة دارسي المقدمة من المتخصصين في العلوم الاجتماعية ويقطع الطريق على تحميل النص فوق ما يحتمل.
الملاحظة الأخيرة، أن باقي أجزاء العبر وديوان المبتدأ والخبر (تاريخ ابن خلدون الواقعة في ست مجلدات في بعض الطبعات وثلاثة في طبعات أخرى – ورقية أو الكترونية) ليست عديمة القيمة بالنسبة للباحث الاقتصادي، فهي وإن كانت تخرج عن نطاق "الفكر الاقتصادي" فقد انشغل كاتبها بإتباع "المنهج الاستقرائي" لدراسة الوقائع التاريخية التي حدثت في عهده، كما حقق الحوادث التاريخية التي سبقته منذ القدم، وتعد هذه المجلدات مصادر مهمة لإبراز التاريخ الاقتصادي ومعالم المجتمعات في هذه الفترات الأمر الذي يجعلها مرجعاً لأي باحث في التاريخ الاقتصادي للمسلمين.
ثالثاً: أهم الأفكار الاقتصادية الواردة في المقدمة:
قسمت المقدمة إلى ست أبواب تفرع عنها 186 فصلاً، تضمن منها 94 فصلاً أفكاراً متصلة بمسائل يهتم بدراستها علم الاقتصاد الحديث. وأول هذه المسائل العمران التي عولجت في الباب الأول والفصول السبعة الأولى من الباب الثاني وبعض فصول الباب الثلاث من المقدمة، وقرأها الباحثون الاقتصاديون باعتبارها تدخل ضمن مباحث التنمية بمفاهيمها المتطورة وليس بمعناها الضيق "تنمية اقتصادية". ثم تطرق في الباب الثلاث أيضاً لمسائل الحسبة والسكة (سك النقود) والجبايات (المالية العامة) وتجارة السلطان وثروته وعطائه الظلم المؤذن بالخراب، وفي الباب الرابع خصصت فصول للرزق والأسواق والفقر والرفه والأسعار. ويعد الباب الخامس من المقدمة كاملاً عملاً اقتصادياً خالصاً، فقد اهتم بالمعاش والكسب والصنائع والفلاحة والتجارة (الداخلية والخارجية) والاحتكار والبناء والحياكة والتوليد والطب والخط والكتابة والوراقة والغناء وأن التعليم للعلم من جملة الصنائع. ويمكن في العرض التالي أن أفصل أهم الأفكار الاقتصادية التي وردت في المقدمة.
1) أفكار حول التقدم والتمدن والعمران (التنمية):
يرى الدكتور حسن صعب[4] أن فلسفة التاريخ هي شغل ابن خلدون (المقدمة) الشاغل، وأنه أدخل مبدأ السببية الطبيعية في دراسة الظاهرة التاريخية والاجتماعية والسياسية وحاول استخراج القوانين الطبيعية لقيام الدول وزوالها، ووضع الدولة في سياقها العمراني أو الحضاري وسمى هذه القوانين "طبائع العمران" وقد توصل إليها من خلال دراسة أحوال الاجتماع السياسي كما هي عليه وانشغل بالمدن والدول القائمة لا بالمدن الفاضلة أو الدول المثالية. وتحفل المقدمة بالمقارنات بين الأقاليم والدول والسير والممالك والأمصار والعلوم والصنائع والعادات وأحوال الدول وأطوار الحضارات، فتقارن بين طور للحضارة وطور آخر وجيل للدولة وجيل آخر، وحددت عمر الدولة بعمر ثلاثة أجيال، لكل جيل خصائصه النسبية والاجتماعية والخلقية. والدول وفقاً للمقدمة صنفان: الخلافة التي لا تخلو من العصبية ولكن السيادة فيها للشرع، والملك الذي لا يخلو من الشرع ولكن السيادة فيه للعصبية، ومنشأ الصنفين هو الحاجة إلى الوازع الذي يحول دون تقاتل الناس، ولا تقارن المقدمة مقارنة ساكنة بين الخلافة والملك وإنا توضح أن الخلافة تطورت أو انقلب نظامها إلى ملك.
وترى دراسة أخرى[5] أن المقدمة حاولت أن تشتق علمياً العوامل التي تحكم صعود وهبوط الدولة أو العمران. وهذه المبادئ التي تعبر عن سنة الله، والتي ورد بعضها في القرآن والسنة، يجب تطويرها بتحليل الوقائع التاريخية. وقد رأى ابن خلدون أن صعود وسقوط الممالك والمدنيات مرتبطان ارتباطاً وثيقاً برفاه الناس أو بؤسهم. ففي تحليله، لا يتوقف الصعود والهبوط على المتغيرات الاقتصادية فحسب، بل يتوقف أيضاً على عوامل أخرى تحدد نوعية الأفراد والمجتمع والحكام والمؤسسات. لذلك تحاول المقدمة أن تحدد العوامل التي تؤثر في نوعيتهم، بتحليل الدور المترابط للعوامل الخلقية والنفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والتاريخية في صعود وهبوط الممالك والمدنيات. ويتلخص النموذج الكامل لابن خلـدون بأنه امتداد جوهري ولو غير كامل، للنصيحة التالية المقدمة منه إلى الملك: "الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب، وجعل له قيماً وهو الملك... فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية، ارتبط بعضها ببعض، وارتدت أعجازها إلى صدورها، واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها"[6] وهذا يعبر عن التحليل الخلدوني المتعدد التخصصات والدينامي. فهو متعدد التخصصات لأنه يربط بين جميع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المهـمة، ومنها الشريعة (ش)، والسلطة السياسية الحكومية أو الوازع (ح)، والناس أو الرجال أو العموم (ع)، والمال أو رصيد الموارد أو الثروة (ث)، والتنمية أو العمران أو النمو (ن)، والعدل أو المساواة (م)، بطريقة دائرية ومترابطة، حيث إن كل متغير يؤثر في المتغيرات الأخرى ويتأثر بها. وبما أن عمل هذه الدائرة يجري من خلال ردة فعل في شكل سلسلة، على فترة طويلة، ثلاثة أجيال أو ما يقرب من 120 سنة، فقد أدخل البعد الدينامي في جميع التحليل، ليساعد على تفسير كيف تتفاعل العوامل السياسية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية عبر الزمن، لكي تؤدي إلى التطور والانحطاط، أو الصعود والهبوط، في المدنيات. وفي تحليل طويل الأجل من هذا النوع، لا يوجد شرط بقاء الأشياء الأخرى على حالها، لأن أياً من هذه المتغيرات لا يبقى ثابتاً، بل يمكن أو لا يمكن أن يكون لها ردة فعل بالطريقة نفسها. فإذا لم تكن ردة فعل المتغيرات الأخرى في الاتجاه نفسه، فإن الانحطاط في أحد القطاعات قد لا ينفذ إلى القطاعات الأخرى، وإما أن القطاع المنحط يجب إصلاحه مع الزمن، أو أن انحطاط المدنية يكون أبطأ بكثير. ومع ذلك إذا كانت ردة فعل القطاعات الأخرى بنفس الطريقة، فإن الانحطاط قد يكسب قوة دافعة من خلال ردة فعل سلسلة مترابطة بحيث يصبح من الصعب عبر الزمن معرفة العلة من المعلول. وهذه الدائرة السببية سميت فيما بعد بدائرة العدالة. وأهم رابطتين في هذه السلسة السببية هما: النمو (ن) والمساواة (م). فالنمو (ن) ضروري لأن الميل المعتاد لدى المجتمعات البشرية هو ألا تبقى ساكنة، فإما أن تتقدم وإما أن تتأخر. والنمو هنا لا يعني مجرد النمو الاقتصادي. إنه يشمل النمو البشري العام، حيث إن كل متغير يثري المتغيرات الأخرى (ح،ش،ع،ث) ويكون ثرياً بها، بما يؤدي إلى رفاه الناس (ع) أو سعادتهم، وإلى بقاء المدنية، بل صعودها. غير أن النمو ليس ممكناً بدون عدل (م)، وهذا العدل لا يفهم هنا بمعناه الاقتصادي الضيق، بل بمعناه الشامل في جميع دوائر الحياة البشرية. ولا يمكن تحقيق هذا العدل الشامل كاملاً بدون خلق مجتمع رعاية، من خلال الأخوة والمساواة الاجتماعية، وتوفير أمن العيش، والملك، والكرامة لكل فرد، والوفاء الكامل بجميع الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية والسـياسية، ومكافأة كل واحد على عمله، وصدّ الوحشية والظلم عن أي واحد، وبأي شكل كان. ومن بين المتغيرات الأخرى، تعني الشريعة (ش) القيم والمؤسسات أو قواعد السلوك لجعل الناس (ع) يقومون بالتزاماتهم كل منهم تجاه الآخر، وكبح السلوك الضار اجتماعياً لتوفير العدل (م)، والنمو (ن)، ورفاه الجميع. وهذه القواعد يمكن أن تكون رسمية أو غير رسمية، مكتوبة أو غير مكتوبة. وكل المجتمعات لديها مثل هذه القواعد السلوكية القائمة على نظمها القيمية الخاصة بها. وربما يكون أساس هذه القواعد في المجتمع الإسلامي هو الشريعة (ش). والشريعة (ش) لا يمكنها أن تقوم بدور ذي مغزى، ما لم تكن مطبقة بعدل وحياد. ومن واجبات المجتمع (ع) والحكومة (ح) العمل على توفير ذلك. ويقدم المال (ث) الموارد المطلوبة لتأمين العدل والنمو، والأداء الفعلي لدوره بواسطة الحكومة (ح)، ورفاه الناس (ع). وهذا الدور المترابط لجميع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسكانية والسياسية في تحديد الرفاه البشري، ومن ثم صعود وهبوط المدنيات، هو تقدم كبير باتجاه الوصف السابق الصحيح للرفاه البشري بأنه قلب مقاصد الشريعة عند الغزالي وابن القيم والشاطبي وغيرهم. وإذا أردنا التعبير عن تحليل ابن خلدون في صورة علاقة دالِّية، أمكننا القول بأن: ح = د (ش، ع، ث، ن، م). وهذه العلاقة لا تحتوي ديناميات نموذج ابن خلدون، ولكنها تعبر عن تعدد التخصصات، لأخذها بعين الاعتبار جميع المتغيرات الرئيسة التي ناقشها. وفي هذه العلاقة ظهرت (ح) على أنها متغير تابع، لأن أحد الاهتمامات الرئيسة لابن خلدون هو تفسير صعود وهبوط الممالك (الدول) أو المدنيات. فهو يرى أن قوة أو ضعف المملكة يتوقف على قوة أو ضعف السلطة السياسية التي تجسدها. فالسلطة السياسية (ح) يجب، من أجل بقائها الطويل الأجل، أن تؤمن رفاه الناس (ع)، بتقديم بيئة ملائمة لتحقيق النمو (ن)، وكذلك العدل (م)، من خلال تطبيق الشريعة (ش)، والنمو والتوزيع العادل للثروة (ث). ومع ذلك ففي حين أن العلاقة المعتادة للعلة والمعلول ليست بالضرورة قابلة للعكس، فإن السببية الدائرية والمتبادلة التي يركز عليها ابن خلدون في المجتمعات البشرية تميل لأن تكون هكذا. وأي واحد من المتغيرات المستقلة يمكن معاملته بوصفه متغيراً تابعاً بالنسبة للمتغيرات الأخرى التي تعدّ متغيرات مستقلة، فيمكن أن تكون تفسخ الأسرة، الذي هو جزء لا يتجـزأ من (ع) في النموذج. وهذا قد يقود أولاً إلى غياب التربية الملائمة للأطفال، ومن ثم إلى انحطاط نوعية الكائنات البشرية (ع)، وهي التي تشكل حجر الزاوية في أي مدنية. ويمكن أن تكون أيضاً ضعف الاقتصاد (ث) الناشئ من نظام اقتصادي خاطئ (ش) أو قيم ومؤسسات غير مساعدة (ش).
2) أفكار حول أضرار تدخل الدولة "منتجة" في النشاط الاقتصادي:
ورد في الفصل الأربعين من الباب الثالث: أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية: اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد المال والجباية، فتارةً توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله، وتارةً بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل، وتارةً بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم، لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية، لا يظهره الحسبان، وتارةً باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال. فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد. وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة. فأولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع، وتيسير أسباب ذلك، فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيراً منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد. ثم أن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن، إذ لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه. ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرعٍ أو حريرٍ أو عسلٍ أو سكرٍ أو غير ذلك من أنواع الغلات، وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات، لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاحٍ بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد، فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدةً، ويمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم. وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب راس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدد ذلك وبتكرر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح، ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية، فأن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، فإذا أنقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش. وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. ثم أنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع، فأنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس. ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية. ثم فيه التعرض لأهل عمرانه، واختلال الدولة بفسادهم ونقصه، فأن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات، وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك. وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة، ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم، ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل، وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه، ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع، وأن لا يستخدم العبيد فأنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة. واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان. وأما غير ذلك من تجارةٍ أو فلحٍ فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة. وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان، أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن. وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم. وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف، أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها، فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً،ولا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس، فإنها أجدر بنمو الأموال، وأسرع في تثميره، ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته. فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه، والله يلهمنا رشد أنفسنا، وينفعنا بصالح الأعمال، والله تعالى أعلم".
وقد كتب الدكتور حازم الببلاوي مقالة[7] حملت نفس عنوان هذا الفصل، واستدل على رأي ابن خلدون في تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وأنه كان من دعاة الخصخصة، كما ذهب البعض أكثر من ذلك فادعى أن الإسلام يدعو للخصخصة مستدلين بنفس النص باعتبار المقدمة تعكس فكراً إسلامياً.
وهذه قراءة "مغرضة" لهذا النص لأن الحديث عن السلطان لا يعني الحديث عن الدولة بمفهومها المعاصر ولا مؤسساتها الحالية أو حتى المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، كما أن النص أنكر تجارة وفلاحة السلطان ولكنه لم ينتقد ملكية الدولة لعناصر الإنتاج وهذا هو مناط عملية الخصخصة، وقد سبق أن أثبتُ[8] أن أمام نظام التوزيع الإسلامي المعاصر تحدي عند تعرضه لمسألة تملك الأراضي، إذ تخرج به من وضعية، الأراضي المفتوحة عنوة والأراضي التي أسلم عليها أهلها، وأرض السواد, (وغيرها من تصنيفات الأراضي التي واجهت نظام التوزيع في صدر الإسلام وتصدى لتوزيعها)[9]، إلى وضعية جديدة تنحصر فيها الأرض بين ملكية الدولة أو الملكية الخاصة (سواء للمواطنين أو الأجانب) وهو ما ينسحب أيضا على الموارد الطبيعية ورؤوس الأموال. وتصبح الأسئلة المطروحة عند تطبيق نظام التوزيع الإسلامي، هل تبقى ملكية هذه الأراضي كما هي؟ وإذا تغيرت، فما هو شكل الملكية الذي يتلاءم وهذا النظام؟ وكيف يمكن التوصل إليه؟ والإسلام ( تاريخا وفقها وفكرا) احترم الملكية الخاصة وحافظ عليها[10] ، كما أن الإسلام (تاريخا وفقها) عَرَفَ الدولة المالكة لعناصر الثروة وحَرَّمَ بعض هذه العناصر على الأفراد[11]، ومع ذلك فإنه لم يعرف الدولة "المنتجة" (الحكومة التي تقوم بدور المنظم) في أي من مجالات الإنتاج المدني. وذلك على الأقل في فترة صدر الإسلام، ثم أن الفكر الإسلامي أفرز بعض الكتابات التي ذمت "تجارة السلطان" ليس من الوجهة الدينية فحسب، بل حللت ذلك اقتصاديا[12]، وذلك في عصور الإسلام الوسيطة. وعندما دخل الإسلام بلادا جديدة، بقي بعض أهلها على دياناتهم القديمة راضين بحكم الإسلام فقد أبقى لهم على أموالهم وأملاكهم (الأراضي التي فتحت صلحا) إلا ما صالحهم عليه منها، فالإسلام يحترم الملكية الخاصة للمواطنين غير المسلمين. ويبقى موقف الإسلام من تملك الأجانب لعناصر الثروة في الدول الإسلامية في حاجة إلى بعض المناقشة والتوضيح والاجتهاد، فالحقيقة التاريخية تؤكد على أن حركات رؤوس الأموال الدولية المتدفقة للاستثمار في دول أجنبية، هي حركات واكبت ظهور الثورة الصناعية والرأسمالية العالمية في مرحلتها الكولونيالية[13]. ففي المراحل التاريخية السابقة حيث كانت الزراعة أو التجارة هي محور النشاط الاقتصادي الإنساني لم يفكر أحد من الأفراد أو الدول في أن تنقل رؤوس الأموال من منطقة لأخرى لغرض إقامة استثمارات زراعية (شراء أراضى أو تأجيرها أو المشاركة في زراعتها). أما التجارة فإن الإسلام لم يمنع التجار المنتمين إلى دار الحرب من الدخول بتجارتهم لبيعها في بلاد الإسلام أو الشراء من الأسواق الإسلامية مادام قد حصل على عقد أمان من مسئولي الثغور في البلد التي يريد الدخول إليها[14]. ومن ثم يصبح هناك (فراغ تشريعي) في مسألة تملك الأجانب للثروات وإن كان "المغني" يسد جزءا من هذا الفراغ التشريعي حين يوضح أن مشاركة اليهودي والنصراني جائزة، شريطة أن يتولى المسلم إدارة الشركة ووضح علة ذلك في مخافة أن يتعاملا بالربا، أو ينتجا ما حرمه الشرع كالخمور مثلا، (وهي حجج يمكن الرد عليها في إطار القوانين الجديدة التي تنظم إشهار الشركات وتلزم أصحابها بتحديد مجال نشاطها)[15]. ومع أن المقصود بالمشاركة بين اليهود والنصارى هم سكان الدولة الإسلامية إذ ليس مقبولا أن يشارك مسلم يهوديا أو نصرانيا من دار الحرب في ذلك الزمن البعيد، فإن ما يسده هذا البيان التشريعي من فراغ يتمثل في أن للمسلم في حالة مشاركة غير المسلم حتى وإن كان من مواطني نفس الدولة الحق في إدارة الشركة، فإذا كانت المشاركة مع أجنبي، فإن القاعدة أولى بالتطبيق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القاعدة الشرعية التي تقول:"متى وجدت المصلحة فثم شرع الله"تسد جزءا آخر من الفراغ التشريعي وتلقى على عاتق الاقتصاديين مهمة " إصدار فتوى"،أهمية الاستثمارات الأجنبية للدول النامية وتقديم الدليل على دورها في التنمية وتحقيق "مصلحة" الدولة الإسلامية أو العكس[16].وتصبح النتيجة النهائية أن الإسلام يحترم حق تملك الأجانب لعناصر الثروة في الدولة الإسلامية، فالأجنبي المستأمن بمنزلة أهل الذمة[17]. ومع ذلك يظل السؤال المطروح إذا كانت الحكومة لها في الإسلام أن تملك ولا تنتج، فهل لها أن تبيع ممتلكاتها؟ تظهر هنا أيضا منطقة (فراغ تشريعي) تزداد اتساعا بالسؤال عن جنسية المشترين إذا كان لها حق البيع فهل تملك المواطنين أم هم والأجانب أيضا ؟ ويبدو أن الحكمة التي دعت حكومة صدر الإسلام أن تبقى على أراضى السواد في العراق والشام ومصر[18] ملكا للأمة كلها[19] سوف تبقى هي الحاكمة لاتجاه الإسلام نحو ملكية الدولة لعناصر الثروة وقدرتها على بيعها حتى يظهر اجتهاد فقهي حديث بشأنها. ولعل هذه القاعدة أولى بالإتباع في الوقت الراهن، وذلك لأن هذه الثروة المملوكة للحكومات الإسلامية في الوقت الحالي لم تنتقل إلى ملكية الأمة في لحظة تاريخية معينة كما قي حالة الأراضي المفتوحة. بل هي أصول إنتاجية ساهمت أجيال عديدة في إقامتها، وربما تحملت الأجيال القادمة جزءا من تكاليف بناء هذه الأصول الإنتاجية (إذا ما كانت الدولة قد استخدمت في إقامتها قروضا طويلة الأجل يقع عبء سدادها على الأجيال القادمة). ومن ثم فإن بيعها في ظل وجود البدائل الكفأة لاستغلالها في ظل الملكية العامة[20]، يعد أمرا بعيدا عن العدالة والمصلحة التي تتوخاها الشريعة. ثم أن الملكية العامة للأرض تتفق مع نظرة الإسلام لملكية المعادن إذ يجعلها كلها ملكية عامة ينظم الإمام (ولى الأمر) كيفية استفادة الناس منها[21]. ومن ثم يقوم نظام التوزيع ذو الأسس الإسلامية على توزيع الثروة في المجتمعات الإسلامية الحديثة بين الأفراد ملكية خاصة والحكومة ملكا عاما، والمشاع الذي تنظم الحكومة كيفية استخدامه في العمليات الإنتاجية وفق مقتضيات المصلحة، وللأجانب إذا ارتضوا كافة التنظيمات الاقتصادية الإسلامية في الإنتاج والتبادل والتوزيع أن تحترم أملاكهم الخاصة.
3) أفكار حول موضوع الزيادة السكانية:
ورد في الفصل الحادي عشر من الباب الرابع من المقدمة والمعنون "في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة": عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقلًّ بتحصيل حاجاته في معاشه، وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك. والحاجة التي تحصل بتعاون طائفةٍ منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوُت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه. وإذا أنتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حدادٍ ونجارٍ للآلات، وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح، وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا، وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت، فأنه حينئذٍ قوت لأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم فأهل مدينةٍ أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم حاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدةً على الضرورات، فتصرف في حالات الترف وعوائده. وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه، فيكون لهم بذلك حظ من الغنى. وقد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب والرزق، أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال. فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة. ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الآنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب. وهذه كلها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها، فتنفق أسواق الأعمال والصنائع، ويكثر دخل المصر وخرجه، ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانيةً. ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاته. واستنبطت الصنائع لتحصيلها، فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانيةً، ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول.وكذا في الزيادة الثانية والثالثة. لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى، بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش".
وقد اعتمدت بعض الدراسات[22] على قراءة هذا النص باعتباره دعوة من ابن خلدون لزيادة السكان لأنها تؤدي إلى زيادة العمران، فزيادة الأيدي العاملة تؤدي إلى تقسيم العمل وتعني زيادة الأعمال والمكاسب والدخول فيزيد الطلب والإنتاج.
كما خلصت الدراسة نفسها إلى أن ابن خلدون تكلم عن الموانع الطبيعية للزيادة السكانية وأهمها المجاعات والظلم الناتج عن الاحتلال والاستعباد.
4) أفكار حول موضوع القيمة (نظرية الثمن أو الأسعار) والطلب الكلي والعرض الكلي والمستوى العام للأسعار:
مما ورد في المقدمة عن الاحتكار باعتباره سبب في انخفاض العرض: "ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار، أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم. وأنه يعود على فائدته، بالتلف والخسران. وسببه، والله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبدلون فيها من المال اضطراراً، فتبقى النفوس متعلقة به. وفي تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً. ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل. وهذا وأن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به، لإعطائه ضرورة من غير سعةٍ في العذر فهو كالمكره. وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها، وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات، فلا يبدلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص. ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه. فلهذا يكون من عرف بالاحتكار، تجتمع القوى النفسانية على متابعته، لما يأخذه من أموالهم، فيفسد ربحه".
ومما ورد عن أثر زيادة العرض عن الطلب في تخفيض الأسعار: "إذ كل وأحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله، لشهره أو سنته، فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع، أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه، لا بد من ذلك. وكل متخٍذ لقوته، تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كثيرة، تسد خفة كثيرين من أهل ذلك المصر، فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك، فترخص أسعارها في الغالب، إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية".
كما استدل بعض الكتاب على معالجة ابن خلدون لأثر التخصص وتقسيم العمل على العرض من خلال النص التالي: " ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن أستعدادا لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى اضعف. وهذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها، ثم يحكم من بعدها أخرى، ويكون فيهما معاً على رتبةٍ واحدةٍ من الإجادة. حتى أن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقل أن يجيد ملكة علم آخر".
وعن أثر نفقات النقل على الكميات المعروضة تذكر المقدمة في فصل بعنوان نقل التاجر للسلع رأى ابن خلدون أنه من الضروري أن تكون السلع المستوردة من "الوسط في الصنف" وليست من السلع الغالية. كما ناقش الربح المتحقق من نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر وأكد على أنه يكون أعظم ربحاً فالسلعة المنقولة تكون قليلة فإذا قلت وعزت غلت أثامنها أما إذا كانت من بلد قريب المسافة والطريق سابل بالأمن فيكثر ناقلوا السلعة وترخص اثمانها.
كما رأى ابن خلدون في زيادة المكوس (الضرائب) والمغارم أثر سلبي على زيادة العرض الكلي وذهب إلى أن من عوامل الانهيار الاقتصادي للدولة الزيادة المستمرة في الجباية.
ناقش ابن خلدون كذلك الأسباب وراء زيادة الكميات المطلوبة وارتفاع الأسعار، وأكد انها ترجع إلى "الترف بكثرة العمران واعتزاز أهل الأعمال بخدمتهم وكثرة المترفين وكثرة حاجاتهم" وهو يعني في ذلك زيادة أسعار عوامل الإنتاج المتمثلة في دخول العمال والصناع وأهل الحرف.
كما عالج النص التالي الآثار المترتبة على انخفاض الأسعار(الكساد): "فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول وملبوس أو متمول على الجملة ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فسد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسدت سوق ذلك الصنف، فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت رؤوس أموالهم".
5) أفكار في التوزيع وقيمة العمل
عن مساهمة العمل في الإنتاج ذكرت المقدمة ما يلي: "فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول. لأنه أن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وأن كان مقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع ثم أن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول،وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وأن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق، التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة. وإذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات، إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها. مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزلى، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر. وأن كان من غير الصنائع، فلا بد من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها.
وعرف ابن خلدون الربح عائداً للتجارة والأجور عائدا للعمل كما ذهب البعض إلى تأويل النص التالي على أنه مساهمة لابن خلدون في الحديث عن فائض القيمة "إن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً لأنه كسب ومنه معاشه لا فائدة له في جميع عمره في شيء سواه..." وقد يكون ذلك من تحميل النصوص فوق ما تحتمل أيضاً. كما أول البعض تخصيصه فصل عن أسعار المدن بأنه ألمح إلى ظاهرة الريع.
6) أفكار حول النقود والثروة :
تذكر المقدمة: "ان الله خلق المعدنين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب" وقد استدل من هذا النص أن وظائف النقود عند ابن خلدون تتمثل في أنها مقياس للأثمان (للقيم) وأداة للادخار (لحفظ القيم) ووسيط للتبادل.
وقد فرق ابن خلدون بين النقود وبين الثروة التي تنشأ من العمران والأعمال الإنسانية ورأى أن السبب في زيادة الثراء والترف والغنى في بعض الدول لا يرجع إلى زيادة المعدنين في هذه الدول وإنما هو "ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق فكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال".
7) أفكار حول التجارة التاجر والإنتاج:
خصصت المقدمة فصلاً في الباب الخامس بعنوان: "في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها" تعرض فيه للصفات التي يجب أن تتوافر في التجار حيث ذكرت ما يلي: "....فيعاني التاجر من ذلك أحوالاً صعبة. ولا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة، أو لا يحصل، أو يتلاشى راس ماله. فإن كان جريئاً على الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة، مقداماً على الحكام، كان ذلك أقرب له إلى النصفة منهم بجراءته، ومماحكته، وإلا فلا بد له من جاه يدرع به، فيوقع له الهيبة عند الباعة، ويحمل الحكام على أنصافه من معاملية، فيحصل له بذلك النصفة واستخلاص ماله منهم، طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني. وأما من كان فاقدا للجراءة والإقدام من نفسه، وفاقد الجاه من الحكام، فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة، لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب، ويصيره مأكله للباعة، ولا يكاد ينتصف منهم. كما خصصت فصلاً أخر من نفس الباب ذكرت فيه: "في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك....وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا يد فيه من المكايسة ضرورة".
والملاحظة الأساسية إزاء هذه الأفكار أنها منقطعة الصلة بالأفكار اللاحقة لها في الفكر الاقتصادي الغربي، فنحن هنا أمام نص يعتمد الاستقراء والواقعية في معالجة الأمور الاقتصادية دون أي "مقدمات" فلسفية تتعلق "بالرشد" و"الإنسان الاقتصادي" التي اعتمدها المفكرون الاقتصاديون الغربيون لقرون متتالية، فطمسوا الفروق بين الناس ولم نجد في أفكارهم سوى الحديث عن أن الإنسان – كل إنسان- رشيد ...الإنسان يسعى لتعظيم منفعته "الربح في حالة قيامه بالإنتاج" و"الإشباع في حالة الاستهلاك".
واتصالاً بهذه الملاحظة نجد انقطاعاً آخر بين المقدمة والفكر اللاحق لها فيما يتعلق بالإنتاج، فالإنسان لدى ابن خلدون يحتاج إلى غيره لإشباع حاجاته ويقسم العمل مع غيره ويتعاون مع الآخرين لإنتاج ما يحتاجونه من سلع وخدمات، ولا نجد كلاماً عن المنافسة ودورها المحوري الذي أخذته في الفكر الاقتصادي الغربي المتعلق بالإنتاج.
[1] راجع محمود إسماعيل، نهاية أسطورة، نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000.
[2] في كتابه علم السياسة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1976م.
[3] راجع أساس البلاغة ومختار الصحاح وكتب تفسير القرآن الكريم.
[4] في كتابه علم السياسة، سبق ذكره.
[5] منشور جزء منها على الموقع الإلكتروني لدار الفكر على شبكة الإنترنت
[6] المقدمة، الباب الأول في طبيعة العمران في الخليقة.
[7] نشرها في جريدة الأهرام بتاريخ 18/3/1990، كما نشرها مرة أخرى في كتابه التغيير من أجل الاستقرار، الهيئة العامة للكتاب بالتعاون مع دار الشروق، مهرجان القراءة للجميع، القاهرة 1998، ص ص: 151 – 154.
[8] في رسالتي للماجستير، المعنونة الآثار التنموية والاستقرارية لنظام التوزيع في اقتصاد إسلامي، غير منشورة، قسم الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة بنها، 2004 ، ص ص: 98 - 103
[9] وفاء محمد محمد سلمان، ضوابط الملكية العامة والخاصة في الفكر الاقتصادي الإسلامي، رسالة ماجستير، جامعة الزقازيق، كلية التجارة, قسم اقتصاد،1993.
[10] "إن أموالكم... عليكم حرام كحرمة يومكم هذا"من خطبة الرسول e في حجة الوداع.
[11] محمد باقر الصدر، سبق ذكره، ص ص:433-572.
[12] راجع كلا من :
· عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة،دار القلم، بيروت1985، ص .ص:365-394.
· أحمد على المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة، تحقيق محمد مصطفى زيادة، وجمال الدين الشيال، دار نهضة مصر، الطبعة الثانية،1957.
· الدمشقي، الإشارة إلى محاسن التجارة ، مذكور في السيد محمد عاشور، دراسة في الفكر الاقتصادي العربي، أبو الفضل جعفر بن على الدمشقي، أبو الاقتصاد، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة،1973، القسم الثاني (يحتوى النص الكامل لكتاب الإشارة).
[13] رمزي زكى، التاريخ النقدي للتخلف، سلسلة عالم المعرفة، العدد118،الكويت،1987، ص ص:67 –74.
[14] محمد بن أحمد بن قدامة،المغني،سبق ذكره،المجلد العاشر، ص ص:215.
[15]نفسه، المجلد الخامس، ص ص:274-275.
[16]فضلا عن اختلاف الاقتصاديين حول هذه المسألة، فإن مما يهم الدراسة تسجيله، أن نصيب الدول النامية (ومنها الدول الإسلامية) من تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية المنسابة في العالم مازال منخفضا فهو يتراوح بين19% خلال الثمانينات و16.5% خلال التسعينات، وما تزال أفريقيا تتلقى حوالي 2ر2% من هذه التدفقات، ثم أن دول الخليج كانت إلى فترة قريبة مصدرة لرؤوس الأموال، كما أن تطبيق نظام إسلامي متكامل سوف يجعل تدفق الاستثمارات إلى العالم الإسلامي محكوم ضمن عوامل أخرى بعامل خارجي هو نظرة المستثمر الأجنبي لمناخ الاستثمار في ظل الأوضاع الجديدة. (راجع:فرج عبد العزيز عزت، وإيهاب عز الدين نديم، الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتنمية الاقتصادية في العالم ، المؤتمر الدولي حول اقتصاديات الدول الإسلامية في ظل العولمة، سبق ذكره،ص ص:24-32).
[17] عمر عبد العزيز العاني،العلاقات التجارية بين المسلمين وغير المسلمين في الفقه الإسلامي، المؤتمر الدولي حول التاريخ الاقتصادي للمسلمين، جامعة الأزهر، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي،1995. ص:169.
[18] يلاحظ أنها كانت جميعها ملكيات عامة قبل الفتح للحكومة الفارسية والشاهنشاه وللإمبراطورية البيزنطية وأن ما فعلته الحكومة الإسلامية هو عملية تحويل كبرى لوضع المزارعين في هذه الأراضي من أقنان للأرض إلى مستأجرين أو أصحاب حق انتفاع، في بعض الأقوال، لا يؤدون للحكومة سوى ضريبة الخراج. (راجع: محمد باقر الصدر، سبق ذكره، ص ص:497-522).
[19] خوفا من أن يؤدى توزيعها على المحاربين المشاركين في فتحها عبر التوارث من جيل إلى جيل، إلى سوء توزيع الثروة إذ تبقى المساحات الشاسعة في يد الرجل أو المرأة والأكثرية لا تجد شيئا. (راجع:أحمد بن حجر العسقلاني،فتح الباري، سبق ذكره، المجلد السادس، ص ص:297-329. وشمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام، سبق ذكره، ص:41 وما بعدها).
[20] يقدم التاريخ الإسلامي خبرة كبيرة في مجال إيجاد علاقات جديدة بين قوى الإنتاج كالمساقاة والمزارعة والمحاقلة تفصل بين الملكية والإدارة وقدمت الدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة اجتهادات قيمة تسحب هذه العلاقات من الأنشطة الزراعية والتجارية إلى الأنشطة الصناعية وكافة الأنشطة الإنتاجية السلعية والخدمية، ليس هذا فحسب، بل أن الواقع الاقتصادي المعاصر، حتى في إطار عمليات الخصخصة يطرح بدائل متعددة للعلاقات بين قوى الإنتاج لا تقتضي بالضرورة تنازل الدولة عن ملكيتها للأصول الرأسمالية،(راجع في ذلك المبحث الثاني في الفصل الأول من هذه الدراسة، وأميرة عبد الطيف مشهور،سبق ذكره, ص ص:257-294 و Kojima , Reeitsu “ the Growing fiscal authority of provincial – level Governments china " the developing Economies v0l xxx 4 , December 1992 , p.p: 315-364 ).
[21] محمد باقر الصدر، سبق ذكره، ص ص:494-523.
[22] إبراهيم الطحاوي، الاقتصاد الإسلامي مذهبا ونظاماً، مجمع البحوث الإسلامية، الأزهر الشريف، القاهرة،الجزء الأول، 1974، ص:502.
أَبَيَّنْ زِينْ!!
شعر: عبد الغني عبده
***
مكتوب على جبين الصبية كلمتين:-
"سكة سفرْ"!!
محفور على جبين الجدع سطرين:-
"من فين تروح ولـ فين
مافيهاش مفرْ...
لازمنْ تعود لحضنها
ترجع بكفك مهرها...
بالحنة تزرع أرضها
تخطفها وتطير ع الحصانْ...
تبني لها عش من المودة والحنانْ
وتعطره بالورد والعود والريحانْ
.......
تبني لها عش من المودة والحنان والحب ...
الحب حارس ع البيبان ...
.......
الحب حارس ع البيبان ...
ليلو نهارو ديدبان ...."
كل الصبايا بجناحات...
عصافير ساعات
وساعات يمام ...
وساعات سمك[i]!!
والبنت "مفرودة الجناحْ"
مكتوب على جبينها السفرْ...
ومفيش مفــــرْ....
لازمن تفارق أهلها لابن الحلال
يغازلها يوم ...
يناغشها يوم...
وشيء فـ فشيء
يقولها يا أمو العيال...!!
.......
البنت مفرودة الجناح
مكتوب على جبينها السفر
ومفيش مفـــرْ!!
والبنت مش عاشقة القمر
ولا رايدة كام مليون "ريال"[ii]
البنت طالبة مهرها حبة عرق
تروي الغيطان تطرح بنات تفرح رجال
............
منقوش على جبين الوطن....
آيــة أماااااااااااااااااااان.
منقوش على جبين الوطن أية أمان[iii].
***
[i] (الواد اصطاد السمكة......
الواد اصطاد البلطية).

[ii] (إديها ريال إديها....
إديها ريال ولا بريزة).
[iii] (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)...من الآية 99 سورة يوسف

السبت، 27 مارس 2010

قصيدة بعنوان "لو كان ..... لكنه لم يكن!!

لو كان....لكنه لم يكن!!

شعر: عبد الغني عبده

لو كان الفقرُ رجلاً....... لقتلته".
لو كان الثراء رجلاً ..... لقتلني،
وقتلكم.... وهَمَّ أن يقضي على الجميع.
***
لا يمكن أن يكونَ الفقرُ امرأةً لأنه...
لو كان ..... لماتت من فورها دون قاتل أو قِتَالْ.
*** أما الثراءُ...
فاحتمالُ أن يكون امرأةً أكبرُ من توقعِ الرجولة.
وقد (أقولها خائفاً مرتجفاً.... من غضبه)....
قد يكون (الثراء) مخنثا أكثر من كونه امرأة - ذكراً/ رجلاً؛
وربما لذلك.... (أقول ربما) لم يقتلني حتى الآن.....
***وما يزيد من توقع استشكال نوعهِ....
وما يرجح الخنوثة،
أن الثريَ - غالباً – يسعده أن يجودَ على جموع الفقرا...
شريطة أن يستمروا أبدا....
على حال "مد الأيادي"...للقط العطا....
ورفع الأكف لنفث الدعا...
وتحريكها للتمسح فيما يخص الثري...
والتماس موضع الرضا لديه.
***ماذا لو كان الفقرُ رجلا؟....
"لو كان الفقر رجلاً لقتلته".
ولو كان.....لمر بمرحلتين تسبقا الرجولة؛
هما: الطفولة والصبا.
لا يمكن للصبا والفقر أن يجتمعا...
وربما لهذا مستحيلٌ أن يكون رجلا،
وإلا.... لو كان....
لكنت – غيرَ نادمٍ – قتلته؛
رغم أنني أفقد الوعي من رؤية الدِمَاءْ....
***أما الثراءْ... فعندما يكون رجلاً...
لابد أن يَهُمَّ – غيرَ نادمٍ – بقتلي وقتلكم
..... وقتلنا جميعا!!
***الثراءُ إذن ...(ربما) مخنثا لا امرأة ولا رجلا.
والفقر ليس امرأة ولا رجلا ولا مخنثا....
الفقر قد يكون مرضا....
ربما يُزالُ بالعلاج
وربما يستأصلْ.
والفقر من هنا .... قد يُقْتلْ
رغم كونه لا امرأة ولا رجلا ولا مخنثا.
***المشكل الخطير أن حاملي صفاته سيفقدونها!!!!
حاملو صفات الفقر يفقدونها بفقده....
ويحملون نعتَ أثريا...
يجود معظمهم على الفقرا!!!!
شريطة البقاء سادرين في فقرهم،
متعثرين في أغلاله....
رافعين أيديهم للدعا.
والتمسح...
والتماس موضع الرضا.
***إذن.....ماذا يهم أن يكون الفقر رجلاً؟
أو الثراء مخنثاً؟
الفقر والثراء ليسا غاية أو هدفا....
الفقر قد يكون: مرضاً... حالة....
وحالا...
أما الثراء فالأصل أن يكون: وسيلة ....
....مطية وسلماً.
الفقر ليس للثراء ضدا (رغم أن الثراءَ قد يكون قاتلاً .... والفقرَ رَدِيَّاً).
والفقر ليس للثراء ندا، .........
إلا إذا صار الثراءُ - مثل الفقر - داءَ،....
والمشكل الخطير عندها
أن المصابَ بهِ....
لا يسعى للعلاج منه أو استأصالهِ...
المضحك ...... أن صيرورة الثراء مرضاً
تجعله يبقى قاتلاً....
يقتلني، ويقتلكم....
ويقتل الثريَ أيضا!!!!
***
التوازن واختلال التوازن في الفكر الاقتصادي


بحث
إعداد
عبد الغني عبده
أبريل 2008














التوازن في المفهوم الاقتصادي[1]:-
يمكن تعريف التوازن الاقتصادي على أنه وضعية تكون فيها المتغيرات المترابطة المختارة متوائمة مع بعضها البعض بحيث لا يوجد ثمة ميل داخلي لتغيير هذه الوضعية[2]. أي أن التوازن يعبر عن وضع استقرار تام يتحقق حينما لا تظهر أي من المتغيرات الاقتصادية التي أدت إليه اتجاهاً للتغير.
وللتوازن حالات عديدة لها أهميتها في الدراسات الاقتصادية، فالمتغيرات المحددة للتوازن قد تكون أرصدة أو تيارات. ولن يتحقق التوازن التام إلا إذا كانت هذه المتغيرات بنوعيها مستقرة.
ومن مفاهيم التوازن فكرة التوازن المتحرك أو المتنقل وفيها سماح لنمو الأرصدة ولكن بنفس نسبة نمو التيارات.
والتحليل الاقتصادي المتعلق بدراسة وضع معين من أوضاع التوازن يسمى التحليل الساكن وهو لا يهتم بالزمن وأثره على المتغيرات ولا بالمدى الزمني اللازم لتحقيق حالة التوازن هذه كما لا يهتم بتحديد المسار الذي تتخذه المتغيرات للوصول إلى حالة التوازن.
وثمة تحليل ساكن مقارن يتم من خلاله مقارنة وضعين أو أكثر من أوضاع التوازن الساكن، ويوضح التوازن الساكن المقارن ما يحدث للقيم التوازنية للمتغيرات الداخلية عندما يحدث تغير معين في متغير خارجي.
أما التحليل الحركي (الديناميكي) فيهتم بتحديد كل من المدى الزمني والمسار الذي تتخذه المتغيرات المتخلفة للوصول إلى حالة التوازن، بالإضافة إلى حركة المتغيرات المختلفة التي قد لا تصل إلى وضع التوازن إما نتيجة لأن حالة التوازن هذه غير قائمة أو لأن حركة المتغيرات لا تسير في اتجاه تحقيق التوازن أو نتيجة للتغيرات المستمرة في الظروف الخارجية. ويهتم التحليل الديناميكي غالباً بحالات الأوضاع البعيدة عن التوازن والتغيرات الحادثة فيها. كما يتهم بدراسة العلاقات التي تتضمن عنصر الزمن حيث لا تعتمد قيم المتغيرات على الفترة الحالية فقط بل تعتمد كذلك على القيم التي أخذتها المتغيرات في فترات زمنية سابقة. ويستخدم التحليل الديناميكي لاختبار شروط عودة المتغيرات الداخلية إلى القيم التوازنية بعد حدوث الاختلال، فإذا مال النظام تجاه التوازن من جديد كان نظاماً مستقراً وإذا لم يحدث مثل هذا الميل يكون النظام غير مستقر.
استقرار التوازن:-
تستمد فكرة استقرار التوازن من مفهوم قوانين الحركة في العلوم الطبيعية. ولمعرفة ما إذا كان التوازن مستقراً أو غير مستقر أهمية في رسم السياسات الاقتصادية، ففي حالة التوازن المستقر يمكن استخدام التحليل الساكن المقارن، أما إذا كان التوازن غير مستقر فيجب الاعتماد على التحليل الديناميكي نظراً لأن الاعتماد على التحليل الساكن المقارن في هذه الحالة يترتب عليه نتائج خاطئة.
ويمكن دراسة مفهوم استقرار التوازن بإتباع منهج فالراس الذي يعرف بقانون تغير السعر أو منهج مارشال الذي يعرف بقانون تغير الكمية.
منهج فالراس:-
يفترض فالراس أن اتجاه تغير السعر يتوقف على العلاقة بين الكمية المطلوبة والكمية المعروضة. فإذا كانت الكمية المطلوبة أكبر من المعروضة يميل السعر نحو الارتفاع بينما يميل نحو الانخفاض إذا كانت الكمية المعروضة هي الأكبر، ويظل السعر ثابتاً إذا ما تعادلت الكميتان، مما يعني توازن السوق عندما نصل إلى نقطة التعادل بين الكمية المطلوبة والكمية المعروضة. ولأن السلع في نظام فالراس تنتج أولاً ثم يذهب بها إلى السوق فإن الكميات المطلوبة والمعروضة تلتقي آنياً ويحدث التوازن السوق نظراً لتوافر المعرفة بالأسعار.
وفي عناصر فالراس للاقتصاد البحت (طبعة 1954) قد طريقة تتكون من دراسة نماذج متتالية التعقيد وقد بدأ بتحليل التغير الاقتصادي تحت أوضاع مختلفة قبل أن يستكمل ذلك بنموذج الإنتاج حيث تتم المبادلة أخير لخدمات السلع الرأسمالية ثم يدخل النقود في النموذج الدائري التي لا تضيف شيئا مهما للنتائج السابقة. ويعرض نموذج الهيكل الرأسمالي على أنه قمة تحليل فالراس كما سيتضح أن هذا النموذج يدل على إدخال عنصر الزمن في التحليل بينما تبقى النماذج السابقة ساكنة.
استند فالراس عند تحديه لشروط التوازن الاقتصادي العام (على المستوى الكلي) إلى مجموعتين من العلاقات، الأولى هي علاقات الاعتماد المتبادل بين عناصر النظام الاقتصادي، والثانية علاقات التبادل (العرض والطلب) وذلك بهدف تحديد الشروط والضوابط التي تؤول بالنظام إلى الوضع الأمثل لتخصيص وتوزيع الموارد الاقتصادية. وكما سبقت الإشارة لجأ فالراس في البداية إلى تحليل علاقات التبادل معتمداً على فكرة منحنيات العرض والطلب ليشتق منهما دالة المنفعة وقد بدأ بحالة افتراضية بسيطة حيث يوجد شخصان يريدان تبادل سلعتين استهلاكيتين وقد بين أن حجم طلب هذين الفردين على سلعة كل منهما يتوقف على ثمن التبادل، وهو السعر الذي يعبر عن هاتين السلعتين، ومنحنيي طلب هذين الفردين تتجه نحو الانخفاض مع ارتفاع السعر وتتجه نحو الارتفاع مع انخفاض السعر. ولما كانت علاقات التبادل بين سلعتين تتناسب مع حجم معين للطلب عليهما فمن الممكن اشتقاق منحنى الطلب ومنحنى العرض والتبادل يصبح ممكنا إذا كان الطلب مساوياً للعرض عند التوصل لتحديد السعر وإذا لم يتساويا تتوقف عملية التبادل ويعلن سعر جديد "من قبل المزايد" حتى نصل إلى سعر التوازن. ثم أدخل الإنتاج في مرحلة تالية في التحليل ليوضح شروط تحقيق التوازن العام في مجال تخصيص الموارد ثم أدخل في التحليل سوق عناصر الإنتاج واشتق معادلات توازنها بنفس المنطق الذي طبقه على السلع الاستهلاكية ومن خلال الربط بين نتائج المرحلتين استطاع الوصول إلى قلب نظريته في مجال التوازن العام للاقتصاد القومي، فما دامت لدينا معادلات عن العرض والطلب لكل السلع والخدمات يمكن مناقشة آلية التوازن وقد ابتدع فالراس فكرة العداد Numeraire وهي سلعة تستخدم كمقياس للحساب وهي مجرد عملة محاسبية تستخدم كمقياس للحساب وباستخدامها استطاع القول إذا كان لدينا (ن) من السلع لكان لدينا (ن – 1) من معادلات العرض والطلب (والمعادلة الخاصة بالعدادNumeraire مشتقة من المعادلات الأخرى) وعندنا (ن -1) أيضاً من أثمان مجهولة يراد تعيينها، ومن ثم فإن عدد المعادلات يساوي عدد المجاهيل وبالتالي تحل مشكلة التوازن العام.
منهج مارشال:-
ذهب مارشال إلى أن اتجاه تغير الكمية المعروضة يتوقف على العلاقة بين سعر الطلب وسعر العرض عند كمية محددة. فإذا كان سعر الطلب أكبر زادت الكمية المعروضة، وإذا كان سعر الطلب أقل قلت الكمية المعروضة، بينما تظل الكمية ثابتة إذا ما تساوى السعران، وهو ما يعني أن توازن السوق يتحقق عندا يكون سعر الطلب مساوياً لسعر العرض.
ونظام مارشال للتوازن العام يتكون من عدد (ن) من السلع وعدد (م) من عناصر الإنتاج حيث يتم استخدام كل عنصر إنتاج لإنتاج سلعة واحدة ولكل سلعة دالة للطلب عليها تربط بين الكمية المطلوبة وسعر هذه السلعة وفي حالة التوازن يتعادل سعر كل سلعة مع مجموع تكاليف عناصر الإنتاج المتضافرة في إنتاجها (تكلفة العناصر هي كمية العنصر في سعره أيضاً). وفي نظام مارشال عدد 2 (ن +م) من المعادلات لكي يحدد (ن+م) من الأسعار و(ن+م) من الكميات.
ويمكن تلخيص فحوى مفهوم التوازن الثابت من خلال الخصائص الأربعة التالية:-
1. يوجد مفهومين معاصرين عن التوازن هما "توازن أسعار السوق" و"توازن الأسعار الطبيعية" وفقاً لرؤية آدم سميث و"التوازن اليومي للسوق" و"التوازن الطبيعي" وفقاً لرؤية مارشال.
ويتم عرض المفهومين بصورة مركبة لأن دراسة أحدهما بدون الآخر يعد خطأ. حيث أن لكلا المفهومين علاقة بالتدرج ويعتبر التوازن الطبيعي أكثر أهمية من التوازن اليومي للسوق. وفيما يتعلق بمصطلح مارشال يقوم التوازن اليومي للسوق بدور فعال في الوصول للتوازن الطبيعي حيث أن التوازن الطبيعي ربما يكون من خلال تغيرات متعاقبة في التوازن اليومي للسوق. أما التوازن الثابت فيهتم بالتوازن الطبيعي مباشرة.
2. هناك عمليتان تعديليتان: تعديل التوازن اليومي للسوق وتعديل التوازن الطبيعي، ويري دي فوري (2000) أن تعديل التوازن اليومي للسوق يكون سريعاً بينما تعديل التوازن الطبيعي فيظهر عبر عدة دورات تجارة.
3. معيار التوازن هو نقص الدوافع لتغيير سلوك الوحدات الاقتصادية. وضرورة تنظيف السوق أو وضوح السوق على الرغم من الظروف غير الملائمة للتوازن. أما الاختلال فيعني انحراف أسعار السوق عن الأسعار العادية أو الطبيعية وهذا الانحراف يتماشى مع تنظيف أو وضوح السوق. يمكن وجود حالات من اختلال التوازن بشكل فعال طالما الانحراف في الأسعار موجود.
4. مفهوم التوازن الثابت بالنسبة للتوازن يتفق مع الفهم البديهي للتوازن، فعلى سبيل المثال هو يعد نقطة استقرار. وهذه النقطة لا يجب بالضرورة الوصول لها فعلياً، ولكن يكفى أن القوى المؤثرة تتحرك على الرغم من عدم الوصول إلى هذه النقطة. ويمكن النظر إلى التوازن على أنه نقطة جاذبية (وهو أول مفهوم استخدم للتوازن). مع ملاحظة أن هذا الخط الفكري يرى أن وجود قدر من التوازن أو الاختلال يختلف عن الحقيقة الواقعة.
عناصر فالراس للاقتصاد البحت:-
طريقة فالراس المميزة في عناصره للاقتصاد البحت (1954) تتكون من دراسة نماذج متتابعة من التعقيد. وقد بدء بتحليل الاقتصاد على أشكال مختلفة قبل أن يستكمل التحليل بنموذج الإنتاج. في الأخير تتم المتاجرة فقط في خدمات السلع الرأسمالية. لم تعد هذه هي القضية في حالة نموذج التكوين الرأسمالي والائتمان، حيث يتم الاتجار بالسلع الرأسمالية نفسها. وأخيراً يتم عرض النقود في نموذج التوزيع والنقود. وحيث أن النموذج الأخير لم يضف شيئاً مهما إلى النتائج السابقة، يمكن عرض ؤنموذج التكوين الرأسمالي على أنه قمة تحليل فالراس. كما سوف يتضح أن هذا النموذج يدل على الدينامكية (مراعاة التغير عير الزمن في التحليل) ومن ثم فإن باقي النماذج السابقة لفالراس تظل نماذج ساكنة.
بما أنه لا يمكن الوصول إلى التصور الكامل لنظرية فالراس بدون وضع نموذج التكوين الرأسمالي في الاعتبار فإنه من المهم البدء بمناقشة نموذج الإنتاج:-
نموذج فالراس للإنتاج:-
ما يدعى "بتلمس السوق" tatonnement عند فالراس هل يجب ترجمتها على أنها حساب (شرط) العملية التنافسية أم تترجم على أنها عملية تكرارية تحدث في الـ logic time. فطبقاً لترجمة وليام جيف (1981) افترض فالراس آلية تعديل تعمل على تحقيق التوازن من خلال الدورة التجارية. وهذا هو تضمنته فقط الطبعة الرابعة والخامسة من "العناصر". في البداية كان الهدف الأساسي لفالراس هو كشف الظروف المنطقية لوجود التوازن العام. والتزم بهذا الهدف في كل طبعات "العناصر" وعلى أية حال فقد غير رأيه في طبعات أخرى عن تكوين التوازن واحتمال التجارة أثناء الاختلال. في الطبعة الأولى تظل التجارة الخاطئة والاختلال عنصرين مكملين لتفكير فالراس. وقد حددت الـ tatonnement هدف واضح مما يوجه إلى شرح كيفية ذلك من خلال التجربة والخطأ، فقوى السوق قادرة على تحقيق نفس النتيجة التي حققها الاقتصاد الخارجي عند حل نظام المعادلات الآنية.
فالادعاء بأن مصطلح tatonnement هو التوضيح المثالي لعمليات السوق أو هو تقليد لقوى السوق في هذا المجال اختيار مصطلح tatonnement الذي يعني في الفرنسية تلمس الطريق مناسب تماماً، لسوء الحظ تتعثر وجهة النظر هذه مع الأساس النظري لفالراس إذ التبادل الخاطيء مسموح به ويبقي الاقتصاد عند توازن مختلف عن الذي بدء به وكنتيجة فإن العملية التنافسية ويتم التوازن تحسب خارج الاقتصاد وتخفق في التزامن. وللوصول إلى هذه المصادفة يجب استبعاد التبادل الخاطئ وهو ما يقلب مصطلح tatonnement رأساً على عقب. النتيجة النهائية أن نظرية فالراس ما زالت مسماة tatonnement ولكن دون تلمس أو جس نبض.
والآن تعبير tatonnement يصبح خطأ في التسمية ولكنه يحدد التقنية الرياضية المستخدمة من قبل المنظرين لإيجاد حل للمعادلات الآنية في نظام فالراس للتوازن العام. يجب أن ترى كظاهرة حدثت في لحظة معطاة ومن المستحيل أن يدافع عنها باعتبارها تعريف للأداء العادل للعملية التنافسية. إذن عملية التوازن تحدث فقط نتيجة لمسألة الاستطراق فالسعر المدفوع ليس أكثر من الاضطرار إلى رفض ما كان يهدف إليه فالراس أولاً عندما بدء مشروعه النظري يعني لحل لغز آدم سميث عن عمل "اليد الخفية".
إذن واجه الدارسون مشكلة تجاه مدى واقعية نموذج فالراس وهل هو أداة صالحة لوضع سياسة اقتصادية مناسبة أم أنه أداة تعبر عن شكل تجريدي للاقتصاد.
التوازن في نموذجي فالراس ومارشال للإنتاج:-
أخذ نماذج الإنتاج في العتبار يعطي ميزة السماح لرسم مقارنة حادة بين استنتاجات فالراس ومارشال، يمكن الإشارة إلى ثلاث اختلافات:-
1. الزمن، الدورات التجارية هي الأساس في تحليل فالراس بينما دورها ثانوي في تحليل مارشال. بعبارة أخرى نوع فترة السوق وهيكل الوقت المركزي عند مارشال غير موجود في نموذج فالراس.
2. العلاقة بين الإنتاج والتجارة، فلدى فالراس يبدو أن الإنتاج يحتل مكاناً قبل التجارة فالبضائع تنتج ثم ترسل إلى السوق. في نموذج فالراس يبدأ كل من الإنتاج والتبادل فقط بعد وجود التوازن. بعبارة أخرى الإنتاج يصنع – حصرياً – وفقاً للطلب ومن ثم فإن خاصية التوزيع التام مفترضة من البداية.
3. الاختلافات عن التوازن، ففكرة توازن مارشال مغايرة لفكرة التوازن الثابت. ومفهوم التوازن في نموذج الإنتاج لفالراس مختلف فلديه مفهوم واحد للتوازن ولذلك له معيار واحد هو وضوح السوق أو تنظيف السوق. التوازن سوف يكون دائما وفقا لافتراض tatonnement ولكن الاختلال له فقط وجود افتراضي ويحدث في الـ logic time . ولذلك ليس له وجود مؤثر في هذا السياق لا يوجد مكان لعملية تعديل تأخذ وقتاً. كل هذا يجعل تقييم فالراس أكثر سهولة بينما المزاعم المعقدة صيغت حول مدخل مارشال. على سبيل المثال قد يكون هناك توازن آلي طبقاً لمعيار آخر هو أن الوصول للقيم العادية غير ضروري.
الوقتية في عناصر فالراس:-
نوقش نموذج إنتاج فالراس كخطوة أولية نحو تكوين نموذج الائتمان وهيكل رأس المال. يدرس نموذج الائتمان اقتصادا متقدما حول سلوك المدخرين والمستثمرين وتراكم رأس المال وإمكانيات التبادل القوية وقد أخذ في الاعتبار فترتين: فعندما تنتج السلع الرأسمالية لن تنتج خدمات أخرى حتى الدورة التجارية اللاحقة. التوقعات عن الأسعار المستقبلية دخلت في الصورة مع المشاركين في السوق الذين يشكلون التوقعات حول الأسعار المستقبلية اعتمادا على الأسعار الحالية. في كلمات إرفن ديفرت التوازن في هذا النموذج يشمل مجموعة تتكون من تيار الأسعار والأجور الحالية زائد معدل الفائدة وهذا يساوي الطلب بالعرض في كل أسواق الإيجارات الحالية والطلب الإجمالي يساوي العرض الإجمالي المتاح من الأصول القابلة للاستثمار. جزء من عرض الأصول يتكون من إنتاج السلع الإنتاجية الجديدة، الذي يساعد على مساواة الطلب والعرض في سوق الأصول. بينما من الصعب فهم نموذج التكوين الرأسمالي لفالراس بدون رؤية الزمن، يجب أن يكون الاعتراف بأن طريقة فالراس افترضت أن الزمنية كانت بدائية فهو لم يتأمل التردد عن الأوضاع المستقبلية للعالم.
جعل الزمنية أسهل احتمالات التوقعات تعني توقعات ساكنة(الأسعار التي سادت في دورة تجارية يتوقع أن تسود في دورة تالية). نسب المشاركون في السوق التوقعات المحتملة الصغيرة.
عندما تأخذ في الحسبان النظرية الديناميكية لفالراس الاستنتاجات يجب أن تعدل لاستعارة مصطلحات كل من فان فتلستجين وماكس (1989) يكون فالراس هو الرائد الأخير لهيكس.
في هذا الضوء الجديد فإن المقارنة بين الثبات ومفهوم فالراس عن التوازن أقل حدة.
اتضح أن هناك مفهومين للتوازن بالإضافة إلى إمكانية اختلال التوازن عبر الزمن والتعديلات عبر الزمن.
سابقاً صرحت أن اختلال التوازن لدى فالراس يعني عدم وضوح السوق وهو ذو وجود افتراضي فقط. ويظل هذا حقيقي في ظل الاهتمام بالدورات التجارية. على أية حال المعنى الثاني للاختلال يعني الآن الاختلال عبر الزمن وهو غير متناقض مع المفهوم السابق عن وضوح السوق.
من فالراس إلى هيكس:-
الجيل الأول من الاقتصاديين التابعين لفالراس:-
انتقال فالراس إلى المحور الزمني عرف بصعوبة بالغة حتى من قبل هؤلاء الاقتصاديين الذين يدعون اتباع خطوات فالراس. مع إمكانية استثناء باريتو. فلكل الأهداف والأغراض الاقتصادية بالنسبة للنيوكلاسيك الرئيسيين في الفترة من العقد الأخير من القرن التاسع عشر إلى العقد الثالث من القرن العشرين كان الأمر المفروغ منه أن المفهوم الوحيد للتوازن هو السائد والممتد من الكلاسيك إلى فالراس.
تم إهمال عناصر فالراس خلال العشرينات من القرن العشرين حتى من قبل الأكاديميين واستبدل بقراءة أسهل لنموذج كاسل.
في الثلاثينات قام هيكس وليندال وهايك باكتشاف فكرة التوازن الثابت دون أن يعلموا أن فالراس توصل إليها قبلهم.
وكانت هناك قراءة لبعض طبعات فالراس.
لبندال وهايك وهيكس وإعادة اكتشاف التحليل الديناميكي لفالراس:-
النتيجة الحاسمة لنقاش الثلاثينات من القرن العشرين كانت ذلك المفهوم المتقدم عن التوازن العام الذي لا يمكن أن يعرف مال يكن متعلقاً بأفق زمني وعملية تخطيط عبر الزمن.
وهكذا مفهوم التوازن العام لا يمكن أن يعرف ما لم تكن التوقعات تشكل كم تبادلات إلى التوقعات. أعطي دور محوري لمفهوم التوقعات
وإذا كان حدس الأفراد صحيحاً أو ممكناً فالسؤال هو هل يتخذوا قرارات صائبة في الفترة؟
في هذه الحالة فقط يكون تخصيص الموارد بين الاستعمالات المختلفة ناجحا.
في مرحلة ثانية التطور أسقط أهمية التوقعات على افتراض أن المشاركين في السوق من الممكن أن تكون توقعاتهم خاطئة ومن ثم ظهر دور الدلال أو المزايد.
أوضاع الاختلال:-
أي أن هايك أكد على خطأ التوقعات وعلى أهمية إدخال عنصر الزمن في تحقيق التوازن.
نظرية التابعين لفالراس إمكانية الاختلال في دورة تجارية معطاة:
لكي تفهم عدم قبول عدم وضوح السوق في مدخل فالراس من الضروري أن تعكس فرضيتي tatonnement و "المزايد" اللتين تأسس عليهما هذا المدخل. فالمزايد مهمته تتكون من استخدام نظام الأسعار لعمل عروض تجارية تنافسية وبذلك يتوازن الاقتصاد كما أن له مهمة في تنظيم التجارة بعد التوازن حيث يعلن المزايد محددات السعر للمشاركين لإظهار الكمية المناسبة للتجارة.
التوازن العام في ظل فائض الطلب أو العرض سيحدث بالتجربة فقط عندما الـ tatonnement تعلن إغلاقها والسيطرة على التجارة.
اعتبر الاقتصاد في مرحلة سابقة أن السعر يعني رد فعل مخطط من قبل المشاركين في السوق في ظروف تجارية غير تنافسية. كنتيجة بعض عروض المشاركين في السوق لا يمكن أن تتقابل.
عندما يحدث ذلك يكون السعر خاطئ فيكون الوكلاء في حال تشاؤم مثل هذه النتيجة يجب ألا تحدث.
عوضا عن التحكم في التجارة المزايد يعلن سعر جديد مختلف عن ذلك السعر الذي تشكل بناء على إشارات فائض الطلب.
الأسعار ستتغير حتى تصل إلى سعر التوازن النهائي.
على الرغم من خداع الأسعار
السبب هو الطابع الديمقراطي الأساسي لعملية الـ tatonnement
المشاركين في السوق لديهم حق الاعتراض على قرار إغلاق عملية تكوين السعر ولكن خلافا لذلك فإن بديهية اشتراكهم في الـ tatonnement هي حقهم في تجارة مناسبة.
الـ tatonnement تشمل عقد عام فيد واحد، يتضمن كل المشاركين في الاقتصاد عند نقطة واحدة من الزمن.
أي شخص يواجه موقف غير متفائل سيرفض العقد العام وكامل العملية التجارية تتوقف ولذلك لا تحدث تجارة خاطئة.
الموقف يمكن أن يوصف على أن من الأفضل عدم التجارة على الإطلاق على التجارة الخاطئة، هكذا في سياق الـ tatonnement فإنه من غير المتوقع أن التجارة يمكن أن تتم دون رضا المشاركين في السوق.
عدم التوازن عند باتنكن:-
"دون باتنكن" كان هدفه الأساسي – في كتابه عن النقود والفائدة والأسعار (1965) – هو إعطاء دعامة قوية لمدخل فالراس.
النموذج المبسط لفالراس في النهاية يوضع لكي يستخدم لمتابعة الأخرين هدف تبرئة بصيرة كينز حول تلقائية البطالة.
وقد ناقش "باتنكن" في الفصل 13 و14 من كتابه موقف التوازن عندما يتعرض لبعض الصدمات.
عندما يزيد الطلب على السندات يقل الطلب على السلع والخدمات. بعد فترة تنمو الأصول فتقرر الشركات تخفيض الإنتاج وينخفض الطلب على العمل إلى أق من المستوى التوازني بينما تسبب هذه الحالة تقلبات في الأسعار والأجور الأسمية وهو يفترض أن إعادة التوازن تأخذ وقتاً.
باتنكن يعتبر أن من المفروغ منه أن حالات اختلال التوازن واردة الحدوث في سوقي السلع والعمال.
توجد البطالة الإجبارية نتيجة اختلال التوازن. وجود البطالة الإجبارية يحدد مدة عملية التعديل. وعند الوصول لعملية التعديل لا يمكن أن توجد بطالة إجبارية. هذا السيناريو يعرف الجذب الواقعي.
التعديل البطيء والسوق غير النظيف أو غير الواضح حالاتان موجودتان في نموذج إنتاج مارشال ونموذج التوازن الزمني لفالراس.
هذا التعديل البطيء قيد ينشأ في كل من:-
1. تحليل مارشال بسبب المعلومات المثالية.
2. في تحليل فالراس بسبب أن المزايد يؤمن تنظيف أو وضوح السوق.
اختلال التوازن لدى بارو وجروسمان:-
لعبت ورقة روبرت بارو (1971) وهيرشل جروسمان (1976) دورا مهما في تبني ما يسمى بمدرسة اختلال التوازن.
كما اهتم كتاب عديدون بتفسير دور التعديل البطيء في حدوث عدم التوازن للحصول على تصور أكثر عمومية عن محددات حدوث الاختلال.
لدى بارو – جروسمان السبب الداخلي الأساسي في نموذج التوازن العام متضمناً ثلاث سلع فقط هي العمل والبضائع والـ monetary good.
الأسعار تحدد من قبل المزايد. من المفترض على أي حال أن اتجاه سعر توازن فالراس لا يحدث. عدم فعالية اتجاه سعر التوازن لدى فالراس يمكن أن يعود إلى عملية الـ tatonnement . ولذلك عندما يعلن المزايد عن اتجاه السعر لا يحدث شيء. ويكون هذا السعر خاطىء غالباً غير أن الاقتصاد الواقعي يتماشى مع هذا السعر الخاطىء، إن زيادة العرض في أسواق العمل والسلع تؤدي إلى عدم التوازن وفقا للنموذج الكينزي.
اتهم لوكاس الأبن بارو وجورسمان بأن تحليلهم كان على العكس من روح فرضية المزايد.
نظرية فالراس الجديدة:- (أمكانية الاختلال المؤقت):-
إن إدخال الديناميكية في نظرية فالراس أدت إلى عدة تطورات مميزة. منها نموذج التوازن المؤقت ونموذج آرو – دربو والنموذج الثالث هو نموذج دورة الأعمال الحقيقية.
1. التوازن المؤقت نموذج هيكس المطور:-
إطار التوازن المؤقت لهيكس تطور في كتابه القيمة ورأس المال (1946) وكما سبق أن ذكرنا فإن السكون المقارن يستخدم في حالة التوازن المستقر إذ أن النموذج غير المستقر إذا تغيرت الظروف لن ينجذب في اتجاه التوازن الجديد بل سيتحرك بعيداً عنه ومن ثم تكون تنبؤات تحليل السكون المقارن عديمة الفائدة وفقاً لتعبير جون هيكس، وهي نظرة مستمدة من مارشال في مجال التوازن الجزئي كما استخدمت في تحليل الطلب الكلي في النماذج الكينزية. والاستقرار في سوق سلعة معينة يمكن تصوره من خلال تعديل أسعارها عند وجود فائض مثلاً في الطلب عليها ولكن بشرط أن تتعدل كل الأسعار الأخرى آنياً لكي تحافظ استقرار الأسعار ولما كان ذلك لا يحدث في الواقع فالاحتمال الأكبر هو حدوث الاختلال أو التوازن المؤقت. وفي كتابه القيمة ورأس المال حلل هيكس أوضاع التوازن الساكن وفقاً لمنهج فالراس ثم اهتم بالتحليل الديناميكي. وقد تصور هيكس أن الزمن مقسم إلى فترات أسبوعية وكل الأعمال يتم التعاقد عليها يوم الاثنين ويتم غلق الأسواق بقية الأسبوع، ومن ثم يذهب الجميع بالسلع والخدمات والأصول إلى الأسواق في يوم الاثنين ومن خبرة الأسابيع السابقة يكون لدى كل منهم تصور عن الأسعار ويتوقع الأسعار الحالية والمستقبلية ومن ثم يحدث توازن مؤقت في الاثنين الحالي وفقاً لفالراس. غير أن التوقعات ممكن أن لا تتحقق وفي كل اثنين هناك منتجات وخدمات وأصول جديدة وهناك توازن مؤقت جديد.
وقد وافق باتنكن على تحليل هيكس كما أعدات جين ميتشل (في سبعينات القرن العشرين) صياغة وجهة نظر هيكس المبهمة حول التوقعات بصورة أكثر وضوحاً.
2. نموذج أرو – دبرو:-
حدد أرو – دبرو أربع فرضيات للتوازن العام هي:-
1. المؤسسات تحول المدخلات إلى مخرجات وفقاً لأساليب فنية للإنتاج تحقق غلة ثابتة، ويستبعد من ذلك تزايد الغلة.
2. يوفر القطاع العائلي خدمات العمل ويقوم باستهلاك كميات موجبة من السلع.
3. تسترشد اختيارات الأفراد بدوال المنفعة التراتبية (منحنيات السواء المحدبة العادية).
4. لدى القطاع العائلي كميات موجبة من كل سلعة متاحة للتبادل في السوق، وله حقوق محددة في أرباح الإنتاج.
وفي نظام اقتصادي خاضع لهذه الفرضيات أثبت أرو- دبرو وجود توازن تنافسي وفق الشروط التالية (وهي نفس الشروط السابقة بصياغة رياضية):-
‌أ. المؤسسات تعظم الأرباح في ظل أسعار معينة في السوق.
‌ب. الأفراد يعظمون منافعهم في ظل أسعار معينة في السوق وأنصبة من أرباح معينة كذلك.
‌ج. لا توجد أسعار سالبة.
‌د. إذ وجد فائض عرض لأي سلعة يكون سعرها صفراً.
ووفقاً لتلك الشروط فإن التوازن العام سيحدث كما هو في نموذج فالراس تماماً توازناً ساكناً وتنظيف أو وضوح السوق
وقد أكدت جهودهما النظرة البديهية لعلماء التوازن العام من فالراس وهيكس وغيرهما. غير أنهما أدخلا ظروف عدم التأكد في الأسواق ودرسا مصادر فشل السوق في اقتصادات الصحة التي تمثلت في انعدام المنافسة والمعلومات غير المتماثلة مع الواقع.
3. نماذج دورة الأعمال الحقيقية:-
نماذج دورة الأعمال الحقيقية لها أصلان هما:-
نماذج تراكم رأس المال التي تطورت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ونماذج لوكاس للإحلال (1972) والسمة المميزة لها أن الدورة الاقتصادية يمكن تحليلها على أنها ظاهرة توازن. والمعالجة تنكر النظرة التقليدية التي يجب أن توضح على أنها التعبير عن فشل السوق. ولكن قبل التحقق من مفهوم التوازن في هذه النماذج توجد ضرورة الملاحظة التمهيدية.
وكل من نماذج لوكاس ونماذج دورة الأعمال الحقيقية تنتمي إلى مدخل فالراس للتوازن العام. ولا يمكن إنكار ذلك. فهذه النماذج لدورة الأعمال الحقيقية تعد عودة لبناء فالراس الرياضي، وقد كان فالراس متمسكا بالطريقة العقلانية ويدعو الاقتصاديين للاقتداء بعلم الفيزياء الرياضية حيث التجريد وتعريف المفاهيم الأساسية التي يبنى على أساسها إطار العمل النظري والبراهين. وبعد ذلك يمكن الرجوع للتجربة ليس من أجل التأكد ولكن من أجل تطبيق الاستنتاجات (فالراس 1954).
وقد اتبع أرو ودربو وهان فالراس في الإصرار على نقطة البناء المجرد للنظرية العامة للتوازن للنيوفالراسيين الذين يهتمون بافتراضات محددة حول ثبات التشغيل والأسعار والأجور الحقيقية.
كما يفترض نموذج دورة الأعمال – مثل أي نموذج كلاسيكي - أن النقود لا تؤثر في الاقتصاد الحقيقي (وإن كان تطور نماذج دورة الأعمال الحقيقية قد أدخل القطاع النقدي في التحليل على يد بلوسر وجي كنج ولوكاس).
للتكنولوجيا وتطوراتها دور كبير في إحداث كل من التوازن والاختلال في النماذج الحديثة لدورة الأعمال الحقيقية، ومن ثم يحتوى نظام الإنتاج في هذه النماذج على دالة تشمل رأس المال والعمل والتكنولوجيا.، بعد أن كان دالة الإنتاج الأصلية تحتوي على العمل ورأس المال فقط.
ومفهوم التوازن – لذلك- موجود في نماذج دورة الأعمال الحقيقية ولا يوجد فيها مكان للاختلال، كما أن مسألة التوزان في هذه النماذج واضحة بشكل لا يستوجب أي تعليق.
ويلفت لوكاس الانتباه إلى أن هذه النماذج تعتمد على مفهوم للتوازن مختلف تماماً عن المفهوم السائد في الستينات والذي تبنى وجهة نظر المدرسة الكينزية، وأكد على أهمية المعلومات وإذا ما كان الفرد لديه معلومات صادقة أم مغلوطة عن السوق والاقتصاد بصفة عامة وخاصة الطفرات التكنولوجية .


أنواع التوازن:-
1. التوازن العام:-
التوازن العام هو حالة يحدث فيها التوازن في الأسواق المختلفة للسلع والخدمات وعوامل الإنتاج دون وجود أي اختلالات في بعضها.
2. التوازن الثابت:-
لدي أدم سميث هناك توازن أسعار السوق وتوازن الأسعار الطبيعية، أما لدي مارشال فهناك التوازن اليومي للسوق والتوازن الطبيعي. والمفهومين لدي مارشال يجب النظر إليهما معاً لأن دراسة أحدهما بدون الآخر يعد خطأ حيث أن لهما علاقة بالتدرج عبر الزمن، ويعتبر التوازن الطبيعي أكثر أهمية من التوازن اليومي للسوق. ووفقاً لمارشال يقوم التوازن اليومي للسوق بدور فعال في تحقيق التوازن الطبيعي الذي يتكون من خلال التغيرات المتعاقبة في التوازن اليومي للسوق. ومن ثم فإن هناك تعديلات تطرأ على عملية التوازن الطبيعي منها تعديلات سريعة بسبب تطور التوازن اليومي للسوق وتعديلات أخرى تظهر عبر عدة دورات اقتصادية. ومعيار التوازن (الذي هو تحقيق مفهوم التوازن الأعلى) هو انعدام الدوافع لتغيير السلوك الفردي. ومن الضروري وضوح السوق على الرغم من عدم ملائمة الظروف للتوازن.
ومفهوم التوازن الثابت يتفق مع الفهم البديهي للتوازن فهو يعبر عن نقطة استقرار وهي نقطة ليس من الضروري الوصول إليها دائماً.
3. اختلال التوازن:-
يعني انحراف أسعار السوق عن الأسعار العادية أو الطبيعية وهذا الانحراف يتماشى مع وضوح السوق. وحالات عدم التوازن تظل سارية كلما كان هناك انحراف في الأسعار.
4. التوازن المستقر والتوازن غير المستقر:-
يعرف التوازن بأنه مستقر إذا أدى الانحراف عن حالة التوازن إلى خلق قوى اقتصادية من شأنها إعادة التوازن إلى حالته الأولى، وبالعكس يطلق على التوازن بأنه غير مستقر إذا ابتعدنا عن حالة التوازن الأولى ويتطلب تحقيق التوازن غير المستقر أن يكون منحنى عرض السوق سالب الميل وأقل انحداراً من منحنى طلب السوق (الذي هو سالب الميل أيضاً). أما لو كان منحنى عرض السوق السالب الميل أكثر انحداراً من منحنى طلب السوق (سالب الميل) يصبح التوازن مستقراً.
5. توازن المستهلك:-
وفق نظرية المنفعة القياسية يكون المستهلك في حالة توازن عندما يحصل على إشباع متكافئ من آخر وحدة نقدية من دخله منفقة على السلع المتخلفة.
ووفق نظرية المنفعة التراتبية[3] يكون المستهلك في حالة توازن عندما يقوم بشراء كميات من سلعتين ويحصل من استهلاكه لهما على أكبر إشباع ممكن – في حدود دخله- بحيث لا يرى سبباً لإجراء تغيرات على مشترياته.
6. توازن المنتج:-
يتحقق توازن المنتج عندما يحصل على أقصى إنتاج ممكن من دخله المحدود. وبعبارة أخرى عندما يبلغ أعلى منحنى ناتج متساوي بخط التكلفة المتساوي، أي عندما يمس خط التكلفة منحنى الناتج المتساوي. وتفريعاً من هذا التعميم هناك حالات متعددة لتوازن المنتج في الأسواق المتخلفة وفي الأزمنة المختلفة. ففي دراسة التحليل الاقتصادي الجزئي تعرفنا على سوق المنافسة الكاملة وسوق الاحتكار المطلق والمنافسة الاحتكارية واحتكار القلة. كما درسنا توازن المنشأة في الأجلين القصير والطويل وتوازن الصناعة كذلك في هذين الأجلين وذلك في الأسواق المختلفة. كما درسنا التوازن المستقر وغير المستقر ونظرية التوازن العنكبوتي (في حالة المنافسة الكاملة) وتحليل شمبرلن للمنافسة الاحتكارية ونماذج كورنت وبرتراند وإيجورث وشمبرلن وسويزي (نموذج منحنى الطلب المنكسر وجمود الأسعار) فضلاً عن نماذج الكارتل للاحتكار الثنائي واحتكار القلة. وتعلمنا في مراحل دراسية سابقة شروط توازن المنتج في هذه الظروف المختلفة ووفق المساهمات الفكرية المتتالية.
7. التوازن في الإنتاج والتبادل معاً:-ويدخل هذا النوع ضمن دراسات الرفاهية الاجتماعية حيث يتم التعرف على الكيفية التي يتم بواسطتها تحقيق التوازن في الإنتاج والتبادل في آن واحد داخل الاقتصاد.
[1] شغلت فكرة التوازن أغلب من ساهم في الفكر الاقتصادي منذ أرسطو حتى وقتنا الحالي، وإن اتخذت تصورات مختلفة لدى كل اتجاه (مدرسة) فكري كما كان لها تصورات مختلفة لدى بعض مفكرين منتمين لمدرسة اقتصادية واحدة.فقد ارتبطت فكرة التوازن لدى أرسطو مثلاً بفكرة العدالة القائمة على الطبيعية فكل ما هو طبيعي فهو عادل ومن ثم رفض الاحتكار والسعر الذي يتحدد في ظله واعتبره سعر غير عادل. والسعر العادل لديه ينتج عن التكافؤ بين ما يعطي الشخص وما يأخذ في المقابل. وإذا كانت فكرة التوازن ظلت مرتبطة بفكرة العدالة لدى المفكرين المسلمين (والفكر الاقتصادي للأساتذة) في العصور الوسطى فإن العدالة لديهم كانت تتعلق بالعدالة الشرعية (المستمدة من الدين) وقد تطورت فكرة السعر العادل لديهم لتصبح سعر التوازن بين العرض والطلب لدى ابن تيمية الذي تناول كذلك الأجر العادل أو الأجر المماثل والربح المعادل. أما التوازن لدى ابن خلدون فقد أخذ منحى متقدماً نظراً لتحليله الديناميكي حول الدورات التي تمر بها الدول وتحديده لشروط استقرارها وازدهارها أو اختلالها وانهيارها. وإذا وصلنا إلى التجاريين ومعاصريهم ممن مهدوا للمدرسة الكلاسيكية نجد "مالينز" قد توصل إلى فكرة سعر الصرف التوازني، كما قدم "ديفيد هيوم" نظرية في التوازن التلقائي لميزان المدفوعات كما أسهم في نظرية كمية النقود التي تعد نظرية في التوازن أيضاً كما أن مبدأ "جون لو" عن أن النقود تشجع التجارة مثل دعوة وضع دائم من عدم التوازن. أما "كانتيلون" فقد اعتبر مبدأ المنفعة الشخصية هو القوة المحركة لحدوث التكيف والوصول إلى التوازن بين الأسواق المتعددة والقطاعات الاقتصادية المختلفة. وقد اعتبر شومبيتر الجدول الاقتصادي لكيناي (رائد مدرسة الطبيعيين) أول طريقة ابتكرت لإظهار طبيعة التوازن الاقتصادي بشكل واضح ومباشر. وكان بداية الطريق لمحاولات متتالية من أهمها محاولة آدم سميث (رائد المدرسة الكلاسيكية) الذي اهتم بالتوازن الجزئي (حيث تحدث عن المستوى الطبيعي للسعر ومكوناته من أجر طبيعي وربح طبيعي وريع طبيعي ونظريتيه عن الأجور:- نظرية المساومة ونظرية مخصص الأجور) وأهتم أيضاً بالتوازن العام ووضح محدداته حيث بين أن ثبات الفائض الذي يجنب من الدخل للاستثمار (التراكم الرأسمالي) من سنة لأخرى وبالتالي ثبات إنتاجية العمل تؤدي بالاقتصاد إلى ما يطلق عليه حالة الثبات أو الركود. ومحاولة ريكاردو الذي اهتم بالريع التوازني والأجر التوازني واستطاع بناء نموذج تجريدي عن الريع والنمو وأدخل عنصري الزمن والسكان في تحليله وخلص إلى ميل معدل الربح للانخفاض وتعرض الاقتصادي الرأسمالي لحالة الركود في الأجل الطويل وهو ما استند إليه كارل ماركس في تحليله للنظام الرأسمالي. كما كان قانون "ساي" للأسواق قانوناً للتوازن الدائم للنشاط الاقتصادي في النظام الرأسمالي عند مستوى العمالة الكاملة مادامت مبدأ دعه يعمل دعه يمر مطبقاً. ورغم كل هذا الاهتمام من المدارس الفكرية الاقتصادية المتتالية بفكرة التوازن، فلم يكتشف التوازن العام إلا على يدي "ليون فالراس" أحد مؤسسي المدرسة النيوكلاسيكية. والذي تأثر بفكر المدرسة الحدية التي اهتمت بتعظيم منافع المستهلكين وأرباح المنتجين وجعلت التعظيم شرط الوصول إلى توازن المستهلك والمنتج وقد كان جيفونز مهتما (كما كان منجر "موسس المدرسة النمساوية" مهتماً أيضاً) بتحليل المنفعة الحدية وتوصل إلى قانون التساوي بين المنافع الحدية للسلع المستهلكة وقد اعتبر فالراس أن جيفونز عبقرية اقتصادية. وقد قدم فالراس نظريته عن التوازن العام سنة 1871م والتي حددت كيفية الوصول إلى توازن النظام الاقتصادي ككل، في ظل سيادة المنافسة الكاملة، وفي نموذج فالراس تتحدد جميع الأسعار في الوقت نفسه ولا يمكن تحديد المسببات فالسلع النهائية تؤثر في أسعار عوامل الإنتاج وتتأثر بها في الوقت نفسه. كما كان لمارشال إسهاماته في التوازن وتوصل إلى نفس النتائج التي توصل إليها فالراس رغم اختلاف منهجيهما التحليليين. ثم أوضح كينز في "النظرية العامة.." كيف أن النظام الرأسمالي يمكن أن يتوازن عند مستوى منخفض من العمالة مهاجما في ذلك عديد من الأسس الكلاسيكية والنيوكلاسيكية وأهمها قانون ساي. ومن خلال نموذجه للتوازن بين الطلب الكلي والعرض الكلي أوضح أن التوازن الاقتصادي عند مستوى العمالة الكاملة (الحالة الكلاسيكية) هي حالة خاصة من حالات التوازن الاقتصادي. وقد حدد "هيكس" الشروط التي ينبغي توافرها في المستوى التوازني للدخل "وفقاً للنظرية الكينزية" عن طريق إيجاد علاقة بين سعر الفائدة والدخل النقدي، ولأن هذه العلاقة توجد في نوعين من الأسواق هما السوق النقدي من ناحية والأسواق السلعية من ناحية أخرى فإن شرط "التوازن العام" هو تمتع السوق النقدي بالتوازن والسوق السلعي بالتوازن، وشرط التوازن في السوق النقدي هو التعادل بين كمية النقود المعروضة وكمية النقود المطلوبة (التفضيل النقدي)، أما شروط التوازن في سوق السلع فهو التعادل بين الادخار والاستثمار. ومن هنا فإن الشرطين التاليين هما اللذان يحددان المستوى التوازنى بين الادخار والاستثمار. (أ) التعادل بين الطلب على النقود (التفضيل النقدي) وعرض النقود (كمية النقود المتداولة)، وهذا هو شرط التوازن في الأجل القصير. (ب) التعادل بين الادخار والاستثمار، وهذا هو شرط التوازن في الأجل الطويل. فإذا ما حدث التوازن في سوق السلع والخدمات عند مستويات عديدة لسعر الفائدة والدخل القومي، وحدث توازن في سوق النقود عند مستويات مختلفة لسعر الفائدة والدخل القومي فإن مستوى واحدا لسعر الفائدة والدخل هو الذي يحقق التوازن في سوق النقود وسوق السلع والخدمات، وهذا هو وضع التوازن العام وقد استخدم في التوضيح البياني لهذا التوازن منحنيي IS ,LM الشهيرين وهما عبارة عن منحنيين للعلاقة بين الدخل وسعر الفائدة ويعبر الأول عن التوازن النقدي أما الآخر فيعبر عن التوازن في القطاع الحقيقي. كما كانت نظرية المباريات لنيومان نظرية في التوازن الاقتصادي خلال الثلاثينات كما أسهم أرو – دبرو كلاهما في وضع نموذج للتوازن العام عام 1954م. وفي فترة الخمسينات كان للمدرسة النقودية إسهاماتها في التوازن من خلال مصطلح "المعدل لطبيعي للبطالة"، كما عرف الفكر الاقتصادي المعاصر توازن التوقعات الرشيدة الذي يقوم على افتراض أن الأسواق إنما هي في حالة توازن باستمرار. وما تزال فكرة التوازن محل اهتمام كبير من جانب الدراسات الاقتصادية الراهنة من خلال مراجعة أهم الإسهامات في نظريات ونماذج التوازن العام أو إضافة رؤى جديدة لفكرة التوازن الاقتصادي، ففي أطروحته للدكتوراه (المقدمة لجامعة كمبريدج عام 1989 بعنوان مفهوم التوازن في النظرية النيوكلاسيكية Neoclassical) لاحظ فرانكو دنزيللي أن تاريخ المدخل النيوكلاسيكي الممتد خلال المائة وعشرون سنة الماضية يمكن أن يترجم باعتباره تاريخ العلاقة بين نماذج التوازن الثابت والآني من ناحية والعلاقة بين التطورات الداخلية لأي من النموذجين. ورأى دنزللي أنه ينبغي أن يكون هناك توافق بين المفهوم التقليدي للتوازن الثابت والمفاهيم الأخرى التي تجدها في كتابات مارشال وأيضاً المفهوم الجديد الذي بدأ مع فالراس وهو مفهوم التوازن الآني. وفي مقالته عن التوازن والاختلال عند فالراس والاقتصاديين التابعين له قدم ميشيل دي فروي (2002) مناقشة لما تعرض له دنزللي بشأن التطورات الداخلية لنظرية فالراس في التوازن العام. واهتم بمناقشة اختلال التوازن واعتبره تمثيلاً جيداً للعالم الواقعي، ولفت النظر إلى استبعاد تعبير الاختلال من مفردات الاقتصاديين لفترة طويلة. والسؤال المطروح هو هل يمكن أن تفسر نظرية فالراس مسألة اختلال التوازن؟ واكتشف ميشيل دي فروي في بعض النماذج لا يوجد مكان لاختلال التوازن غير أن نماذج أخرى تعتبره نتيجة مقبولة وفي بعض الأحيان فإن عدم وجود اختلال يعد مسألة عرضية. كما ناقش الخطوط العريضة لمنظور التوازن الثابت بالمقارنة بما قدمه فالراس ثم ناقش مفهوم التوازن عند فالراس كما قدمه في كتابه "عناصر الاقتصاد البحت (طبعة 1954) ثم عرض اختلاف الرؤى من الجيل الأول من الاقتصاديين التابعين لفالراس إلى ليندال وهايك وهيكس. وتعرض بعد ذلك لعرض النظرية الحديثة للتوازن العام وفقاً لفالراس ثم قام بعمل تقييم نقدي لمحاولات كل من باتنكن وبارو وجروسمان للوصول إلى نقطة اختلال التوازن، كما ناقش إمكانية اختلال التوازن الزمني، وقد ركز على مناقشة أربع نماذج مختلفة للاقتصاديين التابعين لفالراس هي:- (1) نموذج التوازن المؤقت (2) نموذج أرو – دبرو (3) نموذج الدورة الاقتصادية الحقيقية (4) نموذج ما مضى قد مضى.
[2] ( 1954)F. Machlup
[3] يطلق عادة على تحليل المنفعة التراتبية "تحليل منحنى السواء"، وترجع هذه النظرية إلى ثلاثينات القرن العشرين وهي من إسهامات هيكس وألين، غير أن ابتكار منحنى السواء كان على يد الاقتصادي الأمريكي إيجورث في نهاية القرن التاسع عشر ضمن ما يسمى "الشكل الصندوقي لإيجورث" كما استخدمه باريتو في دراسته للرفاهية الاقتصادية.